في فلسطين أنتَ لا تعرفُ الاسم الذي هو لك؛ إذ لكَ كلّ الأسماء، وكل الأسماء أرضك، وكل الأسماءِ سَماك.

"ليش سَمّيتوني أمل؟"

سؤال بدهي لأيّ طفلٍ يبلغ لسانه فطام البكاء فيشدّ أزرَهُ بالأسئلة. سؤالٌ تختلفُ إجابته إن كنتَ فلسطينيًّا؛ إذ في حالةٍ كهذه تحملُ اسمكَ ويحملك، وتصبحُ حكايتكَ خيطَ دمٍ لكلّ من عبروا دَرب الآلام منذ عام 1948م إلى اليوم.

يُسمّى الأطفال تيمّنًا بأجدادهم وجدّاتهم – وهذا دأب الفلسطينيين وسائر بلاد المشرق عادةً – ثم يأتي الأعلامُ وكلّ من له بركةٌ وشرفٌ وقدمُ سبقٍ في التاريخ، ثم تحضرُ أسماءٌ مرتبطةٌ بحرفةِ الأب أو شغف الأمّ أو كليهما معًا. وهناك أسماءٌ كالنّصيب.. لا تعرفُ كيف التصقت بصاحبها. ولو سألتَ من اختارها لكَ فسيحار جوابًا. أما اسم المولود الفلسطينيّ، فجواب سؤاله جاهزٌ على الدوام. لا، لن آخذكم إلى مساحةٍ من التّنظير، ولكني سأبدأ من النهاية؛ من شيرين أبو عاقلة.

رزقَ يوم أمس ثلاثة فلسطينيين بمواليد إناث، وأطلق عليهن جميعًا اسم شيرين. وسيرزقُ اليوم، وغدًا، وبعد غد آخرون بمواليد إناث، لفلسطينيين تقطّعت بهم السبل في مشارق الأرض ومغاربها، وسيُطلَقُ على كثيرٍ منهن اسم شيرين. وعندما يكبرنَ ويسألن – إن لم يسبقهنّ الجواب إلى الفطام – فستكون ذكرى شيرين أبو عاقلة حاضرةً في كلّ بيتٍ وشارعٍ وحارة فلسطينية، وستكون الحكاية مكتوبةً على جباههن جاهزةً على المرآة. كذلك كما علق اسم إيمان – لإيمان حجّو – ودلال – دلال المغربي – وغسان – غسان كنفاني، وقائمة الشهداء تطول...

اسم شيرين يظلُّ مألوفًا في الشارع الفلسطيني – وهو اسم صديقة طفولتي الفلسطينية كذلك – فماذا عن "رِتْشِل"؟

عام2003 قتل الاحتلال الصهيوني راشيل كوري، الشابة الأمريكية التي حاولت إيقافَ جرّافة صهيونية بجسدها النحيل أثناء الحرب الثانية على قطاع غزة المحتل. قُتلَت راشيل، وولِدَت ألف "رِتْشِل" بموتها. أجل، هكذا كان اسمهن أولئك المولودات بين الخراب والركام والدماء والدموع، وهنّ اليوم شاباتٌ مثل راشيل، وعلى جباههن خُتمت الحكاية التي لا يمكن إخفاؤها ولا تكذيبها.

في فلسطين، لا فرق في الأسماء بين عربيّ وأعجميّ.. إلّا بالمقاومة. هكذا تَنبتُ الأسماء كأشجار الزيتون، كأزهار الحنّون، تحيطُ بك مع كل شهيدٍ يرتقي، وبالكاد يكفي عدد المواليد الجدد لاحتواء أسمائهم.

أذكرُ فتاةً في مدرستي كان اسمها ثورة، وأخرى جِنين، وثالثة بيسان، ورابعة وخامسة، وسادسة. أما أمّي، فلاسمِها حكايةُ الموتِ الأوّل.. مولودةً تحت رصاصِ النّكبة، أنثى.. قيل لجدّي حينها ما تسمّيها؟ لاجئة؟ صابرة؟ هاجر؟ بالله ماذا تسميها؟ فأجابهم برباطة جأش: بل أسميها "غالية" لأن أرض فلسطين التي تركناها غالية.. وإليها سنعود. ماتَ جدّي، فوُلِدَت له حفيدةٌ سمّاها ابنُهُ "عالية"، لتعلو راية فلسطين.. وعلى هذا النّهج مشى أبناؤه وأحفاده، كلّ واحدٍ منهم يختار اسمًا يعودُ به إلى فلسطين، منهم من اختارَ معنىً رمزيًّا: جهاد، نضال، .... ومنهم من بحثَ عن شهيدٍ في العائلة ليُحيي أثَرَه؛ عليّ، مصطفى،... ومنهم من كان مثلي.. أعطاهُ احتلال الجنوب اللبناني اسمَه.. فكنتُ أملًا بدحرهِ وتحرير أرضه، وجِئتُ: أمل.

أجل، في فلسطين أنتَ لا تعرفُ الاسم الذي هو لك؛ إذ لكَ كلّ الأسماء، وكل الأسماء أرضك، وكل الأسماءِ سَماك.


رشة ملح

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات رشة ملح

تدوينات ذات صلة