محاولة لفهم تأثير العوامل الخارجية و الداخلية لفهم عملية صنع الإنتماء لدى الإنسان .
هذا السؤال ليس مبدئيا، و إنّما يفترض توفّر وعي مسبق بأنّ إيديولوجيتنا هي إلى حدّ ما، ليست ناتجة عن اختيارنا الحرّ و إنّما عن تضافر عوامل خارجيّة أدّت جميعها الى تبنّيها .
و مع ذلك لا تزال الإجابة عن هذا السؤال غير ممكنة ما لم نحدّد تركيبة مفهوم الإيديولوجيا و ننظر إلى تعريفاته المختلفة .
فما هي الإيديولوجيا ؟
إنّها الكلمة اللّاتينيّة التّي تتكوّن من ثلاثة عناصر " ال" اي " و التّي تُعتمد في اللّغات الفرنسيّة والأنقليزيّة في بداية الكلمات للدّلالة على المعنى المضاد، ثمّ " ديو"و وتعني في اللاتينية و الفرنسيّة النّسبة أو الرّبط و أخيرا "لوجيا" أي اللّغة أو المنطق السّائر .
و بهذا تكون العبارة ترجمة حرفيّة ل" انعدام اللّغة" أو " غياب المنطق " .
و قد يبدو هذا التّفسير غير مألوف و لا تحليليّ، لأنّنا نفهم الإيديولوجيا على أنّها منظومة أفكار لها ذاتيّة متميّزة و مستمرّة عبر الزّمن .
و لكن في الحقيقة، فإنّ هذه المنظومة ليست مجرّد تبنٍّ لأفكار سياسيّة بقدر ما هي انغلاق على هذه الأفكار .
نحن في الغالب لسنا مستعدّين للتّنازل عمّا نعتقد في صحّته بقدر ما نحن مستعدّون للدّفاع المستميت عنه و إنعاشه في ظلّ التغيّرات التّي يشهدها العالم .
فما هي أسباب هذا التبنّي الصّلب الذي أدّى بالتّالي إلى الإنغلاق على إيديولوجياتنا ؟
مبدئيّا، لا يسع المجال هنا للإلمام بجميع الأسباب، و لكن على الأقل يمكننا تحديد الخطوط الكبرى .
1 - الأسباب التّاريخيّة :
لقد نشأ جيل السبعينات في ظل القوميات السّاخنة، فجملة الإستقلالات العسكريّة أفرزت تصوّرات خاصة للدّولة الحديثة
و طرق الحكم و أساليب الإنتاج،
و بالتّالي سعى كلّ طرف وراء تحقيق هذه التصوّرات سواء عن طريق النضال السياسي ضدّ النظام القائم حينها، أو عن طريق الإستماتة في الدّفاع عن هذا النظام من قبل مؤسسيه .
و هذه الحركات السياسيّة - في مصر و تونس و الجزائر مثلا - أنتجت قوّة شعبيّة تشترك في تعرّضها للقمع و الإستبداد في حالة المعارضة، أو في محاولة الدّفاع عن بقائها و التصدّي للرّفض الأفقي في حالة السّلطة الحاكمة و أتباعها .
و هذا ما أعاد إنتاج الرّموز السياسيّة في تلك الفترة، و سواء كنّا نؤمن بأفكار " حسن البنّا " أو بأفكار " كارل ماركس " فإنّ هاجسنا من وراء هذا الإيمان هو تحقيق هذه الأفكار على أرض الواقع .
و هكذا فإن الإيديولوجيات التّي انفلتت في تلك الفترة من قيد الإستعمار وجدت نفسها متجدّدة
و مشحونة بعاطفة الجماعة .
فلا نستغرب أنّها وُرّثت كما يورّث المال و هي مع ذلك جاهزة للتبنّي بحكم سندها التّاريخي .
2 - الأسباب النّفسيّة :
إنّ غريزة البقاء التّي يمتلكها الإنسان لا تخصّ فقط استمرار المادّة
و تطويرها، و لكنّها تشمل أيضا تحقيق " الأمن الفكري " .
نحن نسلّم تلقائيا بأنّ هدفنا في النّهاية من تبنّي إيديولوجيا معيّنة هو تحقيق أفضل الظروف السياسيّة التي ستنتج مجتمعا مثاليّا يتمتّع بالحقوق و الحرّيات و غيرها من مظاهر الحضارة الحديثة، و لكنّنا لا نشكّك في مدى فاعليّة هذه الإيديولوجيا في تحقيق هذا الهدف .
فتقويض أفكارنا على أساس المراجعة أو التّعديل يمثّل خطرا قد لا نستطيع مواجهته .
فمن جهة فإنّ هذا التّقويض قد يؤدّي إلى تسرّب جوهر الإيديولوجيا و بالتّالي تعريضها إلى الهجمات السياسيّة و الفكريّة المضادّة التي ستجد في شكّنا تجاه ما نتبنّاه من أفكار دليلا على ضعفها و عدم نجاعتها .
و من جهة أخرى، فإن مشاعرنا تجاه آلام جماعة معيّنة أو انتصاراتها أو نضالاتها تكون انفعاليّة و غير خاضعة في العادة لسلطة العقل.
و من هنا يولد الإنتماء اللّامشروط إلى إيديولوجيا معيّنة، و يستمدّ ذاتيّته منها عبر الزّمن .
و يكون إضافة إلى العوامل التّي ذكرناها سابقا محاطا بقواعد شعبيّة تؤمّن تغذيته و تجديده عبر الأجيال .
و هذا ما يستجيب إلى تعريفنا الأوّل لمصطلح الإيديولوجيا، و يبقيها بالتّالي تحت نوع من الإنغلاق الإنفعالي .
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات