" لم أتخيل يوماً أن الصخور الشاهقة أوفى في صداقتها من أهل الأرض" كلمات نطق بها جيلان فتبللت روحه بأمطار الذكريات.

"كان لدي المعتقد الدائم أن أبناء الجبال أو من يعيشون على سفوحه يأخذون من صلابته وشموخه، وتأكدت ذلك الاعتقاد عندما رأيت صمود الجبل في تقاسيم حياة جيلان الطفل"


بدايةً لستُ ناقدة إنما أنا قارئة أتنفس الكلمات وألتهم العبارات، ومنذ أن قرأت (حوش عباس) للروائي /جابر مدخلي وأصابع يدي تحاول أن تكتب شيئاً يوفيها حقها.

الجُمل في رأسي تتزاحم كزحام الصخور المتلاصقة عندما كونت جبلاً شاهقاً كجبل الدّود.


الكتاب الذي أبهرني يحوي على 377 صفحة من القطع المتوسط الحجم وتعتبر رواية طويلة نسبياً، نشرتها تشكيل للنشر والتوزيع.

جابر مدخلي ابن جازان البار الذي جسد حبه لوطنه في مشاعر الطفل جيلان، الذي حبا على تلك الصخور الجبلية والأشواك غرزت نفسها في أديمه الغض، وما انفكت تنغرز فيه حتى بعدما ارتحل من بين أحضان أمه.

هذا الكتاب في عتبته الأولى وعنوانه المرتبط بيسيمائية مع الغلاف الذي يشعرنا بالقلق، فمن هم تلك الرؤوس في حاويات الزجاج على الأرفف، ورمزية الغلاف مع العنوان وربطه بالشكل العام للمستودعات التي يكسوها الغبار دلالة على النسيان والهجر.

أما الإهداء الذي كان مكتوباً بكليمات مقتضبة جداً " إلى جيلان الذي سوّيته بيديّ"

ولإن الهدايا تهدى للأحبة، فإن الطفل ذاك ارتبط بشكل كبير بالكاتب حتى ظننا أنه هو. تواردت الخواطر من هو جيلان، وكيف تجلّى بين يديّ مدخلي؟

قيل قديماً أن في كل قصة جزء من الحقيقة، ولقد عرفت لاحقاً عندما استمعت للقاء كانت تديره وتحاوره الأستاذة /عهود القرشي لنادي بصيرة الثقافي وسألته السؤال الذي فكرنا فيه هل جيلان حقيقة وعن سبب تسميته؟ فأجاب: "جدتي كانت من تلك المناطق الحدودية وأنني كطفل عشت تلك الحياة الجبلية وأُعاين الأماكن البعيدة عن الحدود كجزء من حياتي ويعيش الأحداث لكن بدون جيلان وقتها".

لكنه عندما كبر تذكر التفاصيل وحينها بدأ جيلان بالتمظهر وليس هو بجيلان.

فالعتبة الأولى تلك أرشدتنا للتوغل في متن النص السردي قراءة وتأملاً.

الرواية لا تحتوي على فهرساً للعودة إليه ، ولكن الصفحة الأولى من الرواية تأخذنا إلى أولى التكوينات التي صنعت جيلان فالرواية تحوي على ثلاث تكوينات كما أسماها مدخلي لترتبط بإهدائه الذي سواه وكأن كل تكوين يعبّر بتجلّي واضح عن مرحلة فاصلة لجيلان مقسمة على ثلاثين فصلاً مرقماً.

ارتحلنا سوياً في رحلة وعرة شديدة الانحدار منذ الصفحة الأولى وشممنا رائحة الغبار المنبعث بين شقوق الجبال التي كان لها الفضل بعد الله في حماية العائلة الطيبة، وتخيلنا مكان المعبد الصغير في البقعة المباركة المنزوية عن العالم، حتى تمنيت أنا أن أذهب إليها وأدعو الله حتى يستجيب لي صلواتي كما استجاب الله لصلوات والدة الطفل النحيل.

" لم أتخيل يوماً أن الصخور الشاهقة أوفى في صداقتها من أهل الأرض" كلمات نطق بها جيلان فالرواية من أول كلمة فيها كانت على لسان الطفل الذي يحكي حكاية عشق المكان فتبللت روحه بأمطار الذكريات.

فالمكان كان ظاهراً بجلاء في أسطر تلك الرواية والصداقة المكانية التي ارتبط فيها مع الرواية في الجبل والحدود والبيت القديم والفيلا الفارهة والأحواش والنفق الصغير الذي كان يربط بين روحين صغيرتين نقيتين.


وشعرنا أيضاً بأن الزمان الذي كتبت فيه سردية الرواية كان قريباً، فللوهلة الأولى نشعر أننا في نفس تلك الحقبة وأن الإسقاطات الزمانية قد تكون في كل حين، كيف لا؟ّ! وأننا ارتبطنا بما هو قبل ولادة ذلك الطفل البرئ وعشنا على لسانه كل اللحظات والارتحالات منذ البداية حتى النهاية، وشعرنا بما شعره وأحسه من فرح عندما أحبته أخته سالمة وأدخلته في حدود العائلة الجديدة وعندما أبغضته عمته فائزة وورّثت بغضها لطلال، فلقد كرهنا طلالا لإننا شعرنا بما شعر جيلان.

كانت الرواية بسرديتها واضحة المعاني فلا مجال للرمزيات التي يعجز الفكر عن تحليلها، وبساطة الكلمات وإن كتب بعضها بلهجة بيضاء يفهمها كل من يقرأها.

استطاعات أن تربطنا بالرواية فلا مجال للصعوبة أبداً.

أيضاً شدني في تلك السردية العلاقات البشرية المتنوعة والطباع المختلفة والعواطف المتفاوتة في كل صفحة.

الحب اعتلى صفحات تلك الأوراق فحب الوالدية وحب الأخوة وحب الأصدقاء وحب الجدة الذي مافارق روحه حتى بعد حين، والحب العذري الطاهر لبطل قصتنا لحبيبته.

والكره والحقد والبغضاء كان لها النصيب الأكبر في تلك الرحلة الطفولية القاسية حتى اشعرتنا بالقرف والاشمئزاز لكل من كان سيئاً مع جيلان.

لكن الحب كان يعيد لنا أنسانيتنا التي كادت أن تفقد مع ألم جيلان المتجدد فقد كان يمسح على قلبه وقلوبنا بالعاطفة النقية الطاهرة التي بالرغم من تمرغها في الوحل العفن إلا أنها تخرج صافية نقية كالصخرة التي يصيبها الوابل، إلّا من الألم الذي أرداه في ذلك الوحل لم ينسه ولا ينسينا.

لا أستطيع أن أطيل في جمالية الرواية ولا أظن أنني أوفيها حقها أبداً، فثلاثمئة وسبعة وسبعين صفحة كانت بمثابة دثار نسجت خيوطه بمغزلٍ من التروي الممزوج بألوان العلاقات البشرية ملطخاً بخبايا النفس الأمارة بالسوء.

كنت أتمنى أن يطيل نهايتها قليلاً، فلقد شعرت بأنه يسارع في الختام وكأنه تجرع ماتبقى من كأس الشاي الساخن حتى لايبرد.

وفي عتبته الأخيرة من سردية مدخلي التي أنهاها سريعاً كما أسلفت فكانت صفحة الغلاف الخلفي عبارات على لسان جيلان وكيف أصبح نتفةَ لحمٍ في طريق كلبٍ مسعور في حوشٍ لجيّ اسمه ( حوش عباس)


بقلم الكاتبة / خديجة الزيلعي.

مكة




ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات شغف الكلمة

تدوينات ذات صلة