عليك أن تنتبه لكل ما يجري حولك من أحداث، فالأحداث الصغيرة قد تصنع أعمالًا كبيرة،
ماذا ستفعل لو رأيت كتابًا بعنوان "كيف تُكتب الرواية؟" ثم وجدت أنه من تأليف العملاق جابرييل غارثيا ماركيز، وأن عملاقًا آخر، هو الراحل صالح علماني، من قام بترجمته للعربية؟.لا شك أنك ستقتنيه بلا تردد؛ أملًا في الحصول على أقصر الطرق إلى روما، إلى كتابة رواية مضمونة النجاح.
أنا فعلت هذا، مدفوعًا بالهدف نفسه.عندما وقعت عيناي على كتاب لماركيز يحمل هذا العنوان، لم أتردد لحظة واحدة في الاستعانة به لمعرفة تلك الآليات السحرية التي كان صاحب "مئة عام من العزلة" يصنع منها رواياته المدهشة.
بدأت القراءة، ثم واصلت، وبعد نحو خمسين صفحة مدهشة، اكتشفت أنني تعرَّضت لخدعة العنوان التي يعتمدها كثير من الناشرين لتسويق أعمال بلا قيمة. مع ذلك، كان الكتاب قيِّمًا ككل أعمال ماركيز.
كان الكتاب عبارة عن مجموعة مقالات كتبها الكاتب الكولومبي العظيم، وقد جمعتها دار نشر في كتاب واحد، حمل عنوان أحد المقالات (كيف تُكتب الرواية؟).
الحقيقة أن الكتاب الذي لم يقدم نصائح محددة لكتابة رواية رائعة، قدَّم لي خلاصة ما يمكن لكاتب رائع أن ينصح به من يحاولون التحوُّل إلى كتَّاب رائعين مثله.كانت خلاصة ما كتبه ماركيز أن الرواية الواقعية لا تختلق من العدم وأنها ليست إلا ابنة للواقع.
يوجد نوعان من الكتَّاب، أحدهما يكتب لتحسين العالم والآخر يكتب لتحسين حساباته المصرفية. ماركيز (نوبل 1982)
بمعنى آخر، قال ماركيز في كتابه إنه انطلق في كل أعماله من وقائع وقصص حقيقية ثم أضاف عليها خياله ووضع فيها فلسفته.
"مئة عام من العزلة"، "ليس للكولونيل من يكاتبه"، "في ساعة نحس"، "غانياتي الحزينات"، "خريف البطريرك"، "الحب في زمن الكوليرا".. كلها روايات تناولت حياة ماركيز أو أجزاءً منها، بشيء من الخيال، كما يقول هو في كتابه.
لذلك، يمكنني القول إن الناشر لم يخدعني، انا خدعت نفسي عندما وضعت تصوَّرًا للكتاب قبل أن أقرأ ما فيه، ثم خدعتها ثانية عندما قررت أن عدم وجود تعليمات محددة من ماركيز لكيفية كتابة الرواية، يعني أنني تعرّضت لخدعة العنوان. ثم خدعتها ثالثة عندما لم أنتبه إلى أن عنوان الكتاب هو: "كيف تُكتب الرواية؟ ومقالات أخرى".
لقد تأكدت فعلًا بعدما قرأت هذا الكتاب، أن الرواية لا يمكن أن تكون خيالًا محضًا، وإنما هي تناول الواقع بطريقة خيالية. هذا ما قاله ماركيز في المقال الذي حمل الكتاب عنوانه.لقد أجاب الكاتب الجميل عن هذا السؤال قائلًا إن أكثر من يسألون هذا السؤال هم الروائيون أنفسهم، أي أننا نسأل أنفسنا ونقدّم إجابات مختلفة.
مشكلة الكتَّاب الشباب أنهم يكتبون وهم يفكِّرون في النجاح والفشل، في حين لم أكن أفكِّر في بداياتي إلا في الكتابة لنفسي. خورخي لويس بورخيس (1899-1986)
وقد صنَّف ماركيز الروائيين إلى قسمين، أحدهما يسعى لتحسين العالم والآخر يسعى لتحسين حساباته المصرفية، وهنا تكمن أسباب جودة العمل، حتى لو لم يحظ بأي تقدير، كما يقول ماركيز.
يمكنني القول إنه أراد أن يقول: أكتب كل ما تريد أن تكتب، لكن بلغة جميلة وبشيء من الحكمة، لا تتجاهل الواقع، لأنك لن تصنع عالمًا كاملاً من الخيال، وإن صنعته فإنه سيكون غالبًا بلا روح.
فقط عليك أن تنتبه لكل ما يجري حولك من أحداث، فالأحداث الصغيرة قد تصنع أعمالًا كبيرة، كما حدث مع ماركيز نفسه.
يقول ماركيز إنه كان متجهًا من باريس إلى نيويوك، فرأى شابة تقف في طابور الصعود. بعد النظر إلى هيئتها، قرر سريعًا أنها أجمل امرأة في العالم.
في الطائرة، كان حظُّه أن جلست أجمل امرأة في العالم إلى جواره، وما إن وضعت حزام الأمان حتى استغرقت في نوم طفولي، لم تفق منه إلا عندما حطَّت الطائرة على مدرج مطار الوصول.
خلال ساعات الرحلة، اكتشف ماركيز أنه تقدَّم جدًا في العمر ليس فقط لأنه أكبر من تلك الجميلة النائمة، لكن لأنه أيضًا ليس مهيئًا لإقامة علاقة حب معها.
على الرغم من ذلك، عاش ماركيز هذه القصة في خياله خلال خمس ساعات من الطيران هي الوقت الذي قضته الجميلة نائمة إلى جواره حتى نزلت في مطار نيويورك، وتركته ليكمل مأساته وحيدًا حتى مطار مكسيكو.
وقد أنجبت هذه العلاقة الخيالية التي بدأت وانتهت دون كلمة واحدة، رواية جميلة هي "ذاكرة غانياتي الحزينات".
في النهاية، يقول ماركيز في صدر كتابه: "إن الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس (1899-1986) قال في مقابلة صحفية قديمة إن مشكلة الكتّاب الشباب أنهم يكتبون وهم يفكرون في النجاح والفشل، في حين لم يكن يفكر في بداياته إلا في الكتابة لنفسه".
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات