و قد يجبر الله قلبُكّ في زهرة، حاشاهُ أن يرد عبده صفرًا..!

من بضعة أشهر، كانت واحدة من زياراتي إلى المشتل لأبتاع المزيد من الشُجيرات.. بين الكثير من النباتاتِ العطِّرة، ما لفت انتباهي سوى واحدة فقط..كانت غيرهُن. كانت في زاوية المشتل؛ قديمة، مُهملة، يابسة، ذبلانة، يتراوح لون أوراقها ما بين الأصفر و البُني، ما وجِّد بها حياة! و عندما وقع نظري عليها، التفت إليَّ مباشرةً "عم فارس" صاحب المَشتل، و قال لي ضاحكًا؛ "لا دي ميتة دي!"

تنهدتُ قليلًا، و قررتُ أن أقوم بشيء جُنوني هذه المرة.."سأخذها..!!" و انتابه التعجُب، كبقيةِ المتواجدين في المَشتل، لكنني تمسكتُ بها و وددتٌ أخذها بشدة. قدّ يبدو ذلك غيرُ منطقيًا، و لكنني فعلتُها و أخذتها "ميتة" كما يزعمون. علاوةٌ على ذلك، تمنعتُ عن شرائها بثمنٍ بخس كما تم عرضها، لم تبدو لي كزهرة ميتة أو رخيصة الثمن على الاطلاق، كُنت أرى بها شيئًا مميزًا، مُختلفًا، تمنع الجميع عن رؤيته، كانت تستحقُ مني أن أبتاعها بما يناسب قدرها ذاك! و الجميل أن والدتي لم تعارضني في ذلك أيضًا، تقول فتاتي مجنونة، و ولكنها كانت ترى نفس الشيء.

انتباني القلق و قلة الحيلة في بداية الأمر، لا أملك من العلم و الخِبرة في الزراعة ما يكفي لمُساعدتها، و إن كان لدي، ما الحيلةُ البارعةُ في يدي أنا؟ و صاحب المشتل بذاته قدّ سئم منها!

أخذتُها، و أسميتُها "حياة"، و وضعتُ حياة في أنسب مكانٍ، مُشمسٍ في حديقة بيتنا، و هيأتُ لها تُربةً صالحة، و استمريتُ في وضع السمادِ لها و رييِّها باستمرار.. و لكن ذلك ما كان مُجديًا.. مر الشهر الأول، فالثاني.. و ما زالت على وضعِّها..! المسكينة.. و ما الذي أفعله أنا غير ما فعلهُ عم فارس؟ أوشك اليأسُ أن يتمكن مني .. كانت تذهب و تعود تلك الأفكار، ربما قدّ انتهى أجلُها، ربما لن تُزهر من جديد.. لا، لن أسئم باكرًا هكذا.. و لا تيأسوا من روح الله.. ستُزهر، بأمر الله ستُزهر.

أتذكر في المرة الأولى التي أحضرتُ "حياة" إلى البيت، كان لسيقانها أشواكٌ قاسية، ربما شائكةٌ أكثر من البقية، و لكنه لم يُضايقني جرحُها المستمرُ لأصابع يدي، كُنت أعلم أنها تتألم أيضًا، و لا قصد لها في ذلك. كنت واثقة أن يومًا ما، ستُغطي أزهارها، و فروعها الخضراء كل تلك الأشواك. لم تتوقف تلك اليدين المجروحة عن رييِّها و الاعتناء بها باستمرار. تطلب الأمرُ مني الكثير من المُجاهدة لدفع الأفكارِ السيئة، و حسن الظن بالله، و اليقين بأنه سبحانه القادر على كُل شيء. كُنت على يقين بأنها ستزهر من جديد.

أستيقظُ في الصباح الباكر من كُل يوم، لأحتسي أنا و والدتي الشاي برفقتها .. كنت أقرأ ورد القرآن اليومي بجانبها، مؤمنةً بأنها تستمع له، فهي تسبح و تسجد لله. لقدّ جلستُ برفقتها سعاتٍ مديدة و طويلة، أقص عليها من قصصي. أخبرها عن الأشياء التي تُحزنني، و الأشياء التي تسعدني.. أخبرها عن تعثُراتي و انتصاراتي. أخبرها و أقص عليها عن أناسٍ يُشبهونني و عن أناسٍ قد خذلوني. أقول لها حتى أنني أشبهك يا "حياة"، و لم يسلم قلبي من الذبلان..! كنت آتي لأجلس بجوارها و أتحدث حتى أصل إلى حد البُكاء! لقد أمضيتُ شهورًا برفقتها تُذكرُني بالصبر و الرضى و اليقين. كنتُ أردد كل يومٍ بداخلي؛ "ستُزهر، و عزة الله ستزهر" ستزهر في وجهِ كل من حسبها ذبلت بلا عودة.

اليوم تُطلق "حياة" العنان لزهرتِها الأولى!!! زهرةٌ، يافعة و عَطِّرة. زهرةٌ، وردية تعني في دستور الأزهار؛ "التقدير". أشعر اليوم بالسعادةِ الغارمة، لرؤية ذلك الازدهار بعد مرور أشهرٍ و أنا جالسةٌ بجوارها، أدعو الله أن تُزهر، إزدهارًا كافيًا ليخرقَ كُل من أطلق عليها "ميتة" ! و ها هي اليوم مثالٌ لي، و للجميع، أن القلوب الجميلة إن حصل و ذبلت، لا تموت! بل تُزهر من جديد...

أدون اليوم في مذكراتي، أسعد اللحظات. تعود "حياة" للحياة، في أبهى صورة! لم يخذلني الله فيها، و حاشاه لم يكسر لي خاطرًا أبدًا.

لقد وضع اللهُ تلك النبتة أمامي، في هذا الوقت بالتحديد. وضع فيها العظة، و العبر لمن يعتبر. أسميتُها "حياة"، فلكُل مسمى نَصيبٌ من اسمه، لن ينعدم الازدهارُ منكِّ أبدًا. دمتِ مزدهرة يا "حياة"!!

و قد يجبر الله قلبُكّ في زهرة، حاشاهُ أن يرد عبده صفرًا..! ما دعوناه قطّ إلا و قدّ استجاب..إلى الله الملاذ، و الأمان، و السكن.

ريم عاطف

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

كيف بدي انزل منشور

🤗🤗🖤🍯

إقرأ المزيد من تدوينات ريم عاطف

تدوينات ذات صلة