سيرة ذاتية في نص أدبي وحوار وذكريات كتبتُها من نفسي وإليها.
إلى سَناء ما قبل السّنا ..
أكُنتِ تعرفين أنّ هذا الشاب الوسيم، الذي يعتلي منصّات المنابر في السابعة عشر من عُمره سيكون لكِ والدًا...؟ أكُنتِ تُدركين أنّ مُعلمًا أنيقًا يحمل حقيبتهُ "الدوبلوماسيّة" وشعرهُ مرسلٌ على جانبه الأيمن سيكون ليس أبًا وحسب..! هذا الذي شغَل الجيرانَ بحُسن سيرته ودماثةِ خُلقه..! أكُنتِ تعرفين أنّ صبيّةً عظيمةَ القلب.. جميلةَ الوجه.. مرضيّةَ الوالدين.. ستكون أُمًا لكِ وستعيشين معها تُكررين ملامحها.. تلك التي جاءت بيتَ جدك وفيه لكِ أعمامٌ فِتية هم اليومَ أجداد..! المرأةُ التي كانت أمًّا لكل من أحاط بها.. أيَّ أبٍ وأي أمٍ نلتِ فعليهما وعليكِ السلام.. بِهما عرفتِ كيف تبدأ الأسرة الطيّبة من أصيلٍ وأصيلة.. بِهما فهِمتِ القاعِدة الأولى في هذه الرحلة، وعرفتِ كيف يغدو أيّ اختلافٍ أو خِلافٍ بين زَوجين ودًّا مُتجددا..
إلى سَناء الطِفلة ..
أوتذكرين أحاديثَكِ وأنتِ صاحِبةُ أمكِ وجارتها بينمَا إخوتكِ في المدرسة..؟ وكم طال شوقك لبلوغ ما بلغوا..؟ ثُمّ تلميذةً تضجُ بالحيوية، تقرأ دعاء دخول البيت بينما تمُدّ مائدة الكُتب، وتُعيد السطر عِندما تسحبهُ الفراشاتُ إلى أعلى وأسفل من شدة البهجة.. يا لبهائكِ وأنتِ ترُصّين الحروف بكل خِفّة حتى لكأنّ قِرطاسك لوحاتٍ فنية مليئةٍ بالحركاتِ والفواصِل.. وكم علا في إذاعة الصباحِ صوتك هاربةً من شمس الطابور.. بتلك الأيام ودُروسها عرفتِ الآن كيف يُنقَش على صخورِ الوقت كل درس.. وكيف تُدسُّ في مساماتِ الذاكرة مواقِفٌ وكلمات.. ولكِ في رسالاتِ الورق خيرُ ذِكرى.. وفي براءة الروح وطفولتها مزيجٌ مِن عقل الكِبار.. وليس أجمل من قُصاصاتِ "الجوابات" الموقّعة من أبيك في كل رسالة أوصاكِ بها، أو تحبّب إليكِ من خلالها وهو الأحبّ..! وفي كلٍ منها دمعةٌ وابتسامة.. ولعلكِ حين تفتحينها الآن وقد اصفرّت أوراقها تشُمين فيها رائحة عطره الفاتِنة..
إلى سناء الجامعيّة ..
وهل أجملُ من رقصِ القلب في أول يوم جامِعة..؟ وأنتِ تصوغينَ الحلم حقيقةً، وأنتِ تتسترين على ضحكة الشفاه بملامح الرَصانة..؟ أيّ صباحٍ أفخم من ذاك الذي غفا فيه مريولك الأبيض، حمامةً على الذراع..؟ وأيّ شموخٍ أجلُّ من وقفةٍ على باب المُختبر عقبَ امتحانٍ نلتِ فيه علامةً كاملة..؟ وأيّ عِشقٍ انتابَ القلب في أول مِشوار إلى إربد، يبدأ من صحراء الهاشمية وينتهي بين أروقة مستشفى الملك المؤسس.. وطريقهُ مملوءة بحل الواجِبات تارة وأخرى في مشاكسة الرفيقات..! أكُنتِ تظنينَ أنّ لك هُناك صُحبة ستبقى إلى اليوم.. فيها صديقاتٍ وأيّ صديقات..! هُنّ للروح دواء.. وفي ليالي الأرق التي تمُرّين بها تُقلّبين بصركِ بين ذكرياتِ الفيسبوك، ترينَ كم من فِكرة تبدلت، وكم من أخرى تعدلت، وتضحكينَ وأنتِ تُرددين نفسَ السؤال.. هل تُغيِّرنا الأيام.. أم أنها تغيرت علينا..؟ وتُدركين حقيقةَ أنَّ المرء يختلف رأي عقله بين تجربةٍ وضُحاها.. وتتغير زوّادة كلماته من سنة لأخرى..! فيدفعكِ ذلك ألا تعيبينَ على شخصٍ بدّل قوله، ولا تُعاتبين آخر بما كتبهُ بالأمس..
إلى سناء الموظّفة ..
من دقاتِ القلب في انتظار نتائج بوابة الطالب.. إلى دقاتِ القلب في أمانةِ الروحِ بين يديكِ، وصوت أجهزة المُراقبة.. وحسابات الأدوية الدقيقة... من ارتجافة القلم في يدكِ قُبيل انتهاء وقت الامتحان.. إلى اضطراب "السرنجة" بين الأنامل وتمتماتِ الرحمة بهذا الجسد الضعيف تُسمع من داخل رأسك...! من "نسكافيه" البريستيج في صباحاتِ الهاشمية إلى أكواب القهوة في ابتغاء الصحوة عند أول وردية ليلية.. من وجباتِ الطعام المُرسلة بين المحاضرات.. إلى وجبة إفطارِ ما بعد العِشاء في يوم صوم.. من "تحويشة" مصروف لشراء المزيدِ من الأقلام إلى بطاقة صراف آلي.. ومن وظيفة لأخرى.. من مجتمع لنظيرِه... من محافظة لجارتها.. تلتقطين قِطع الحياةِ بخفّة، تُرتبينهَا في سبيل اكتمال اللُعبة.. وها أنتِ ذا تعرفين كيفَ يغدو ضبط المُنبه سعيًا إلى رِزق.. وكيف تبقّى لكِ مِن عاداتِ الطفولة ترتيبُ ملابس غدِك..! وتفهَمينَ أنّ كل ابتسامةٍ في وجه زميلة رصيدٌ من الحُب في محفظة القلب.. وكل صبرٍ على أذى أُخرى درس، حتى إذا ما تراكمت الدروس استحالت حِكمةً تبلغينَها..
إلى سناء رفيقةُ أُمها ..
تُعيدين الكَرّة مرة أخرى، ومهما عصفَت بك هذه الرحلة تعودينَ طِفلة تقُصين القَصص وتَضحكين وتُضحِكين.. تُدركين ألّا عمَل أكثر رِفعةً من مُجالستها.. ولا صُحبةً ترقى فوق صُحبتها.. تُحدّثينها بحديثِ الماضي.. وتُشاركيها وصَفاتِ الطعام.. وكاساتِ الشاي المُعتقة.. تشُدين من عزيمتها.. تُدلكين اليد التي خدِّرتِها في هروبك إليها ذاتَ كابوس.. تُجادلينها في حبّة مُسكنٍ إضافيّ أخذَتها ساعة الألم ألا تؤذي معدتها.. تُخططينَ معها فقراتِ الأحفاد في حين اللقاء.. تُديرينَ معها حواراتٍ كثيرة تنتهي عادةً بنعتكِ بالمُتفلسفة.. تدعينَها لفُنجانِ قهوةٍ خاص في حُجرتك، فتُسائلكِ ما كُل هذه الأحبار والورق والمباخِر والشموع..؟ فتقولين لها احتفاءً بكِ وتعلمانِ أنها طباعُكِ أنتِ.. تشاورينَها في كمية السُكر الذي تريد ثمّ تتصنّعين نسيانه وتهُمّين لإحضاره ببطء حتى تُناديك بِـ لا أُريد..! إلى سناء في نهايةِ السنة الأولى من الثلاثينياتِ.. تعرِفين أنّ كُل ورقةٍ في رزنامة العُمر حديقة.. والحدائق أوراقها تخضرُّ وتصفرُّ وتتساقط.. فاللهمّ اجعل لنا من أيامنا حدائقَ وارِفة الظِلال.. وبارِك لنا في حيواتِنا مع الذين نُحبهم ويحبوننا.. وعلّمنا كيف نسمو إلى سمائك بالغينَ شمس معرِفتك.. وسخّر لنا سُبل الوصول إلى مرضاتِك.. وجمّلنا بأحسن الأخلاق.. واجعلنا هُداة مُهتدين أينما حللنا..الثامن من حُزيران 2020
كُل عامٍ وأنتِ بِسناء...
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات