جذوركِ عميقة، أغصانكِ صلبة، كيف تهابين ريح الخريف وأنتِ صوتها ؟!!
ها قد حلّ الخريفُ مِن جديد، نفَحاتُ ريحٍ باردة تُداعبُ أوجُهنا فَتُكسبها لون حُمرة الفراولة مِن شدّة ما تحمِلُ من بَرد، وأوراق الشّجر مُلقاةً في الطّرقات والحدائق والشوارع تُلبِسها ثيابًا بُنيّةً مُصفرّة، والأشجارُ تخلعُ عنها ثيابها وتتجهّز لِموسم كِسوةٍ جديد كَمَن يتجهّز لِلعيد أو لِحفل زفافٍ بهيج .
أسيرُ لِوحدي في الشوارع والطّرقات بِخطواتٍ خفيفة مُحاوِلةً اشباعَ روحي بِكل ما يحيطُ بِها من ملامحَ وتفاصيلَ خريفيّةٍ باردةٍ، لا يُصاحبني في مَسيري أحد، أو لِنقُل كانت تصاحبني أفكاري .
هَه .! تصاحبني فقط ؟ انّها تلازمني كَطيْفِي، تُجبرني على تناولِ وجبةِ الافطار هربًا من ضجيجها الصّباحي، وتُربّتُ على كتفي بِهدوءٍ مساءً لِأنام في أحضانِها السّامّة غافيةً مُرغمة .
كانت تتسكّع داخل دماغي، تنقُر على رأسي كمَن يدقّ باب بيتٍ يستأذنُ الدّخول .يا فتاة، انظُري حولكِ جيّدًا، ها هي الأشجارُ تنفُض عنها كل ميّت لِتُعلّق على أغصانِها كل أخضرٍ مُثمِر، والرياحُ تهبّ بِنفحاتِها في الشوارع تكنُس عن أرضِها كلّ جافٍّ فَتتّضح الطّرقات بِلونِها الرّمادي وتتراصّ على أطرافها الأوراقُ، فَيتناهى بِصورةٍ فنيّة مُتقنَة مرسومةً بِريشةِ فنانٍ مُبدِع على لوحةٍ عريضةٍ تتّسع لِوَقع خطواتِ كل المارّين مِنها وفيها.
تستَمرّ الرّياح بِمُشاغباتِها فَتطيرُ بِوشاح هذا، وتميلُ بِلباسِ ذاك، وتُداعبُ ظفائر الصغيرةِ تيك، فتُحدِثُ على مبْسمها ضحكةً طفوليةً خفيفة .أسيرُ في الشوارعِ أتأملّها بِشدّة، يا الله كم تُشبهني هذه الطّرقاتُ بِالتِواءاتها وألوانها وضجِيجها! يا الله كم يُشبهني هذا الخريف!
لا، هذا الخريفُ لا يُشبهني فقط، بل انّه ينمو داخلي مُنذ سنواتٍ عدّة، يحتلّ ملامِحي وخوالِجي، يثيرُ صريرُ رياحهِ في داخِلي فوضىً عارِمة، يُحرّك أوراقي السّاكِنة المُلقاة على طُرقاتِ عُمري فَتنثُرها وتُحيي معهَا ضجِيج الخَوفِ والقلقِ، الأشجار ماتت، والأغصان اهترَأت فَما عادَت قادِرةً على حملِ ذاتِها حتّى، أتظُنّها قادِرةً على حمْلِ عُمرٍ جديدٍ من الأوراقِ المُخضَرّة والثّمار النّضرة ؟
حتى الأمطار ان سقطت فانّها تسقطُ لِتزيدَ طين طرقاتِي بلّةً لا لِتسقِني، السّقيا ما عادت تنفع، ما عادَ هنا فِي الدّاخل أملٌ بِالحياة، لقد فقدَت الحياةُ أسبابها، رفعتْ راياتِ استسلامِها وأعلنتْ سكُونهَا بِمِلء الفاه .
لم أكُن أعلمُ أنّ الحياة بِسكونها هذا ترتّب لِلرياحِ صوْلاتٍ جديدة، كل ما كنتُ أعرفهُ أنّها لنْ تنتَهِي بِالموت، بل بِاستسلامها لِهذا الخريف .
بينَ موجاتِ صرير الرّياح الذي يهبّ، هناكَ صوتٌ هادئٌ رخيمٌ حكيم، ينبُع من زاويةٍ مُقفرّةَ النّور، يعرفُني ويعرفُ ما أفكّر به، دائمًا ما يخرجُ في آخِر اللحظاتِ لِيُنقذني ويشُدّ بِيدي نحو أكثر الطّرقِ صوابًا، يخرجُ عند تضادّ الخريف مع الحياةِ بِداخلي، كَرؤيةٍ واضحةٍ حين يشتدّ ضباب، كَبوصلةٍ دقيقةٍ حين طُغيان سراب، يدفعُني أنْ اتبعِي ما يبدو لكِ، كأنّه الرسالةُ والجوابُ وطوقُ النّجاة .
يهمسُ : "صراعُكِ يا صغيرة ليس فيما ضاع مِن سنواتِك أو فيما هو قادِم، صراعكِ يا فتاة انْ بقيتِ تسافرين للسّنين بِنفْسِ شبحِ الخريفِ الذي يحيا داخِلكِ .تذكري أنّكِ دون أدنى جُهدٍ تزهرِين كل ذُبول، ماذا لو تورّدت الحياةُ داخِلكِ! تخيّلي حجمَ التفاصيلِ الرّبيعيةِ التي ستملَأُ هذا الكون!
كونِي غيمة، واسقِنا من غيثك، بدِّلي أرضنا من بورٍ لِبساتين وجِنان. كونِي شجرة تكتَسي بِحلّةٍ جديدة، كأنْ لا أحد حُقّ له أن يرتدي السُندسَ غيركِ .
ما بالُكِ تهابينَ ازدِهارَ الرّبيع؟ ايّاكِ يا فتاة، فانّ جفافَ الخرِيفِ سيُهيبُكِ أكثَر .
ما بالُكِ تخافينَ التّغيير؟ ايّاكِ يا فتاة، فانّ الثباتَ مُخيفٌ أكثر، ايّاكِ .
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات
التفاصيل رائعة ❤️❤️❤️