وسط ذلك العبث الذي يبعثر كل ما ظننته رواسخ. أُعيد التعرف على المعاني للوصول إلى الزيف والأصل وأنصاف الحقائق.
يوقظ ذِكر الإنتخابات أمامي؛ ذكري قديمة في ذاكرتي. ليست مُصنفة. أتذكرها فحسب.
فلا أشعر بالضيق منها أو الغضب حيالها أو الإستياء.
أتذكرها وعلي ملامحي نفس التعبير القديم وفي نفسي نفس الشعور القديم.
أرادت مدرستنا في المرحلة الإبتدائية أن نخوض التجربة الإنتخابية؛ لإختيار أمين الفصل والأمين المساعد وبعض الأعضاء المعاونين؛ في الفروع الفنية والثقافية والرياضية وما إلى ذلك؛ مع التأكيد على عدم الإنسياق وراء مشاعرنا؛ وإختيار المؤهلين لأنهم مؤهلين لا أصدقائنا لأنهم أصدقائنا.
سارعت حينها للترشح للمنصب المسؤول عن النشاطات والأعمال الفنية. ولكن بقية القواعد حالت دون ذلك.
كانت القاعدة الأهم تنص على عدم ترشح الغير مصريين وعدم الإدلاء بأصواتهم أيضاً.
وهذا يعني عدم مشاركتي أنا وأختي والصديقة العراقية في المقعد الخلفي والفتاتين السوريتين في مقدمة الفصل.
شعرت وكأنه يتم إخراجي من الفصل ولكن بشكلٍ أسوء. فأنا هنا في منتصف الفصل ولكن عليّ التظاهر بأنني لست موجودة. فإعتلت ملامحي تعبيرات تنم علي اللامبالاة. بل أفضل من ذلك. لم يبدو علي ملامحي شيئا علي الإطلاق وكأن ما يحدث حولي لا يحدث. أكملت اليوم الدراسي وكأن ما يحدث حولي لا يحدث. أو أن كل شئ يحدث لا يعنيني. ولكنني بكيت في المنزل.
أشرت وأنا أسرد لأمي الأحداث؛ إلي إستيائي من عدم المشاركة ولم أستطيع صياغة شعوري الأعمق والأكثر سوءاً.
يمكنني أن أقول الان؛ بأسي شديد؛ أن ما حدث حينها خلف بداخلي قدراً من الشعور بالغربة المتفاقمة مع الأعوام.
في اليوم التالي ذهبت أمي إلى المدرسة ولقنتهم دراساً عن وحشية الإقصاء؛ فلم يستطيعوا الصمود أمام إصرارها بعد أن إحترق مبررهم الوحيد الأحمق : أن تلك التجربة الإنتخابية المُصغرة؛ تدريب للأطفال المصريين علي دورهم الإنتخابي في الدولة مستقبلاً.وأن لا دور لنا؛هنا.
في اليوم التالي أُعيدت الإنتخابات وتم إختياري للمنصب المسؤول عن النشاطات والأعمال الفنية؛ ولكن ذلك لم يمحو ما حدث.
كان تعيين رئيس وزراء بريطانيا قبل عدة أيام؛ هو ما أيقظ تلك الذكري القديمة في ذاكرتي.
جلست أمام التلفاز أُتابع الأخبار بفتور؛ إلتقطت عيني خبر تعيين رئيس وزراء بريطانيا. فتابعت بفضول لأري بديل (ليز تراس) المستقيلة. عُرضت صورته. شاب ذو بشرة سمراء وملامح هندية_قلت ذلك لأنني أشاهد الأفلام الهندية بكثرة. إسمه أيضاً_(ريشي سوناك) _هندياً للغاية. ثم وجدت أنه هندياً حقاً!
تعود أصوله لعائلة هندية مهاجرة؛ حيث هاجر أجداده من الهند إلي شرق أفريقيا؛ وبعدها هاجر والداه في الستينيات إلي أنجلترا. صُدمت. كيف يحدث ذلك! ريشي سوناك ليس بريطانياً. إنه فقط حاصل على الجنسية البريطانية.
ألا يجب أن يكون هناك في منتصف المدينة يتظاهر بأنه ليس موجوداً؟
أري الان أوراق الجنسية كأوراق إشتراك في نادي لا أوراق تعبر عن هوية أو إنتماء. وسط ذلك العبث الذي يبعثر كل ما ظننته رواسخ. أُعيد التعرف على المعاني كطفلة من قبيلة تتشبث بالتراث والهوية؛ خرجت للتو لتري ما آلت إليه الأمور في بقاع الارض.
فوجدت أن الجنسية لم تعد سوي وضع قانوني يسمح للدولة بمنح حقوق للمواطن وفرض واجبات عليه. أي أنها فقدت قدسيتها القديمة المتمثلة في الإشارة إلي مجموعة من الناس الذين يشتركون في هوية عرقية؛ لغة؛ ثقافة؛ نسب؛ تاريخ؛ وما إلي ذلك.
إذا لماذا اتهم محمد الشرنوبي؛ لاعب الإسكواش المصري؛ بالخيانة وإنعدام الوطنية؛ بعدما قرر تمثيل إنجلترا وترك تمثيل بلاده مصر؟
وماذا يعني قوله: "أصبحت إنجلترا موطني".
تفحصت من جديد ما يخلفه الإلتباس. أري فرداً من حاملي جنسية دولة ما؛ دون أن يشعر بشكل شخصي أو عاطفي بكونه جزءاً من تلك الدولة. وأري أخر يشعر بالإنتماء إلي دولة دون تكون له علاقة قانونية بها. مثل الصغار الذين احضروا إلي دولة ما في صغرهم ونشأوا هناك؛ بينما لم يكن لديهم إتصال يذكر ببلدهم الأصلي.
وأري بين هذا وذاك ملايين الأشخاص عديمي الجنسية؛ منهم من ينتمون إلي أوطان لم تطئ أرجلهم أرضها؛او أنهم هجروا منها. وآخرين مزدوجي الجنسية.أظنهم يترنحون في داخلهم. وكثيرين مشتتين بين زيف وأصل وأنصاف حقائق.
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات