كانت تقفز من فكرةٍ لأخرى، ومن رأي لآخر، لم تكن تعترف بثقافة إنتقاء القضايا، فكانت تحمل عبء العالم كله على كتفيها. وفي قلقها تكمن الطمأنينة.



أما هي،

فكانت تصحو كل يوم لتنفض عن وجهها غبار أمسٍ، لعلها تغسل مع كل قطرة ماء ما عاشته البارحة، وكأنها لم تعهده قط.

ينصب كل تركيزها على كوب قهوتها التي تقوم بإعداده كل صباح بطريقةٍ مختلفة بينما تلقي نظرة سريعة على العناوين الإخبارية لتتأكد بأن حربًا لن تقم اليوم، تجول المنزل لتجد مكانًا تحتسي فيه قهوتها، فإذا جلست الأمس في غرفة المعيشة فهي حتمًا ستستنشق بعض الهواء النقي في الشرفة اليوم، وتحمد الله على نعمة الحياة تارة وتستعذ به من شر التعلق بالحياة تارةً أخرى.


امرأةٌ مثلها حُرة، طليقة، فكيفما تقفز من مكان لآخر فهي تقفز من فكرة لأخرى، من رأي لأخر، تعتقد بأن القتل الحقيقي هو أن تُدفن في كنف فكرة واحدة تلعنها وتلعنك، حتى أصبحت مزيجًا من كل شيء وأي شيء; فيومٌ تحدثك عن ثورات الربيع العربي وآخر عن شيفرة دافنشي.


ومع كل رشفةِ قهوة، تجدها تغلق عينيها، مسافرةً أحقاب زمنية

ففي الرشفة الأولى، ها هي تشهد عنترة بن شداد وهو يغمس معلّقته بالحب والحرب،

والرشفة الثانية تجد نفسها تقلب في صفحات التاريخ المكسيكي، واقفة بين "خوسيه سواريز" و "فيليبي أنجيليس" عندما لم يكونا يعلمان أن مصيرهما هو: القتل.

أما في الرشفة الثالثة، فلا شيء يتردد لمسامعها سوى " اشنقوا أخر إقطاعي بأمعاء آخر قسيس" شعارًا للثورة الفرنسية.

لكنها تنهي قهوتها،

فيدركها الواقع.

متنهدةً; فالتاريخ لا يمر عليها مرور الكِرام أبدًا، بل يقتحمها عنوةً

فيجعلها غاضبة،

ثائرة،

متمردة،

ولكن ذلك الغضب كان مصحوبًا بالحكمة،

والثورة بالسلام،

والتمرد بالتغيير.


تنظر إليها فتعتقد بأنه لا يمكن لامرأة مثلها أن تبرد وقد أوجد الله بداخلها محرقة! كُتب عليها أن تعش معاناة سيزيف; ترهقها الصخرة ولكنها ستعيد الكَرّة.

كما أنه لم يعلّمها أحد كيف تختار قضاياها، فقد كانت تحمل عبء العالم كله على كتفيها; بدايةً من طيور الفلامنجو المهددة بالإنقراض حتى سياسات العالم المتضاربة، ومن يكتب له التاريخ الخلود، وصولًا للصراع الأبدي بين الوجود والعدم، نظرية العود الأبدي، حقيقة الثقوب السوداء والعوالم الموازية، الحد الفاصل بين حب الإله والهرطقة في الصوفية، بارانويا أم مؤامرة حقيقية، لعنة الرأسمالية، الحداثة وما بعدها، تفكك منظومة الأسرة، صدمات الطفولة، ضياع البوصلة وتفاهة الأهداف..


أعتبرت نفسها صوت كل من ليس له صوت، فكانت تخرج من معضلة لتجد نفسها في أخرى أشد تعقيدًا، وكأنما هي ذلك الجندي في المقدمة على رقعة الشطرنج، خُلقت لتبدأ القتال دومًا. سلاحها الوعي وأما عن درعها، فقد كان القلق!

ومن مثلها تذوق القلق حتى اعتاده، فهل تحظى حتى بفتات الطمأنينة؟

وتلك "هل" الأخيرة تجيب عن نفسها، فقلقها في حد ذاته; طمأنينة!

تؤمن أن القدرة على القلق في الوقت الذي لا يقلق فيه الاخرون; هبةٌ من الله، بل معركة لا يخوضها الكثيرين، وأما هي، فقد سخرت نفسها لمثل تلك المعارك..




رنا فرج

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إن حروفَك أشبه بزوبعةٍ من الورود ممتزجةً بنسائمِ البحر الصباحية، لا يودُّ آدمي الخروجَ منها تقريباً... ياللجمال الذي التمسه عقلي بقراءتي لتدوينتك✨🦋

تدوينات من تصنيف خواطر

تدوينات ذات صلة