كم من مرّة ارتُكبت الجرائم على مائدةٍ صامتة، وغفرت الشهيّة ذنوبًا لم يغفرها التاريخ؟



إنه يومٌ آخر، أجلس فيه على الطاولة، أراقب أمي وهي تُعدّ لنا الإفطار بحركاتٍ رتيبة، تضع قطعةً من الجبن في صحنٍ يفيض بزيت الزيتون الذي يبدو أنه فقد لونه وبريقه، بجانب كوبٍ من الشاي، ورشة زعتر على رغيفٍ ساخن، علمًا بأنّي لم أعد أشم رائحته كما كان في الأيام الماضية.

أصوات تحضير الطعام تصبح ثقيلة في أذني، كأنها تذكرني بالفراغات التي تملأ المكان، أو بالموت الذي يختبئ وراء كل لقمة.


إنه اليوم رقم خمسمئة واثنين وخمسين، وأنا جالسةٌ على الطاولة، أُحدق في الفطور أمامي، وحين أمدّ يدي، أراها تتجمّد في الهواء. أنظر للزيتون والزعتر كمن ينظر إلى جريمةٍ ناعمةٍ، جريمة ارتكبتها الشبعى في حقّ الجياع.

منذ خمسمئة واثنين وخمسين يومًا، وأمي تطعمنا زيتونًا مُلطّخًا بالدماء، وزعترًا ممزوجًا بحبّات الركام والحطام.

وأمّا عن "غزّة" الآن،

فلا زيتون، ولا زعتر، ولا حتى ماء، لا شيء سوى الموت.


وأنا؟

أنا آكل.

ألتهم العار، ويسري في دمي الخزي، أضع اللقمة في فمي وكأنها الحجارة، ولا آكل إلا وأنا مطأطئة الرأس، لأني أعلم بأن "غزّة" تجاورني على الطاولة، وتأمرني بأن أفتح عيني، وأتأمل من حولي قليلًا

فأرى طفلًا يقابلني، لا يبحث عن الخبز، بل عن يده المبتورة بين الأطباق، يبحث في الحِطام عن جزءٍ من نفسه قد ضاع.

وعلى يميني، أمٌّ تحتفظ ببقايا خبزٍ يابس في منديلٍ قديم، لتقسّمه بين أبنائها وأبناء الخيام المجاورة، فتاتٌ لا لسد جوعٍٍ ما، بل لتذكيرهم بأنهم أُناسٌ مثلنا. أمّا على يساري، فهناك رجلٌ يضع طفله في طبق الفاكهة العميق، ليس ليأكله، بل لأنه لم يجد له كفنًا، يحاول تغطيته بطبقة من الدعاء، وبضع المناديل الورقيّة.

ثم نظرتُ للكرسي الفارغ بيننا، ذلك الذي لم يجرؤ أحدٌ أن يجلس عليه، كان الجميع ينظر إليه طويلاً، وكأنهم يعرفون صاحبه قبل أن يصل: الشهيد القادم.


وحين حِدتُ ببصري إلى الزاوية البعيدة من الطاولة، وجدت طفلًا يضمّ ركبتيه إلى صدره، يحاول بث بعض الأمان في نفسه بعدما فقد العائلة والحياة. كان جسده الهزيل يختبئ في هذا الاحتضان، وكأنما يبحث عن مأوى في صدره بعد أن فقد حضن أمه، وعيناه فارغتان، لا تعرفان أين يهربان. لا يمكن للطفل أن يفهم كيف يتحول الفقد إلى واقع يومي، وكيف يصبح الألم جزءًا من طفولته الضائعة. كان يبتعد عن كل شيء، عن الطاولة، عن العالم، حتى عن نفسه، وكأنما يظن أن ألمه سيخف إذا اختفى عن الأنظار.


كان هذا كافيًا لتغصّ اللقمة في حلقي، ويغدو الزعتر شوكًا!

ثم توجّه "غزّة" انتباهي لكوب الماء أمامي، لتخبرني بأن امرأةً هناك، لم تجد حتى ذلك الكوب لتغسّل جثة زوجها، فالماء قليل، والوداع كثير.

الصمت على المائدة ثقيل،

لكنّ أمي تقطعه بصوتِ تقليبِ حبيبات السكرِ في كوبِ الشاي، فيصدر صوتٌ رتيبٌ اعتدنا على سماعه طوال خمسمئةٍ واثنين وخمسين يومًا، يشبه دويّ القنابل على الأسطح، والصواريخ فوق الرؤوس. ومع كلّ ارتطامٍ للملعقة بكوب الشاي، تنظر إليّ "غزّة" في عينيّ مباشرةً؛ كأنها تدينني بنظراتها.

لم أعد أحتمل،

تبدو هذه المائدة كالقيامة،

وتلك الأهوال لا مفر منها.


حاولت أن أهرب ببصري بعيدًا، يمينًا ويسارًا، لكن الموت كان يُحيطني من كل حدبٍ وصوب

فنظرت للسماء، بعيدًا جدًا، إلى أفقٍ ظننت أن "غزّة" لا تصله، وما هي إلا ثوانٍ معدوداتٍ، حتى بدأت الجثث تتناثر في الهواء، كأنها نجوم تنفجر في سماءٍ مشتعلة!

في البداية، ظننتُ أنها نيازك طائرة، لكن سرعان ما أدركتُ أنها أجساد تتناثر من شدة القصف، تتناثر حتى حدود السماء! "يا الله"، كأنها تهمس لربِّ العالمين عن قرب، تُشهده على الجُرم، وتُشهده على صمتي...وعلى عجزنا جميعًا!


وفي تلك اللحظة، تأكدت بأن لا حُجّة لي أمام الله.


كما أني أدركتُ أن تلك لم تكن قط مائدة إفطارٍ عادية، بل مأدبة للجُناة!

أنا هنا لأقف أمام الله و "غزّة"، أمام ضميري، وديني، وعروبتي.

لا بد حتمًا من الإجابات،

ولكن أهناك من إجابةٍ تُقال؟ أهناك من كلامٍ يُحكى؟

أقف أمام حقيقة مجردة، وهي:

أني آكل، وهم يُبادون!

لم أعد أحتمل،

دفعت الطبق بعيدًا، ووضعت رأسي بين كفّيّ باكيةً، ولكن هل يُغسل العار بالدموع؟

أمّا عن الحقيقة المُرّة؟

فهي أنني لست نِدًّا،

ولا حتى ظلّ نِد.

أنا امرأةٌ تأكل، وتكتب، وتنهار

أنا المهزومة أمام صحن الزعتر، والمنكسرة أمام غصن الزيتون.

أتسامحيني إذا أخبرتكِ بأني لا أملك من الأمر سوى الدعاء يا "غزّة"؟

وبأني أنا "الحرّة"...يداي مغلولتان، عاجزتان عن الفعل؟


هنا، على مأدبة الجُناة،

جانيةٌ أنا... والتهمة: الشبع!


أأكذب حين أقول إني لا أستطيع فعل شيء؟ نعم!

فالصمت فعل، والصمت جريمة.

وها أنا قد أكلت، وشبعت، وصمتُّ


فهل يحقّ لمن شبع أن يبكي؟



ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات رنا اليماني

تدوينات ذات صلة