وإذا مات يومئذٍ لا تقول: إنّه مات لك ميّت، بل مات فيك ميت.. ذلك هو الصديق "فهل لديكم ذلك الصديق الذي تهدون له هذه التدوينة ؟




منذ خمسة أعوام وفى مثل هذه الأيام - هو ذلك اليوم تحديداً - كانت الشمس قد بدأت تميل نحو المغيب لتعلن عن إنتهائه كيوم مرهق لجميع رفقاء الدراسة من حولى، لكنه كان بالنسبة لىّ يوم حزين كئيب ممل، لأنى كنت أتحاشى فيه التعامل مع رفيقه دربى - إن صح وصفى لها - فكلما تذكرت هذا اليوم أجد أحداثه تداعى أمام عينى وتسترسل الصور بشكل تلقائى وكأنى أعيش كافة تفاصيله من جديد، فأشعر وكأن هناك نسمة رقيقة رطبة جاءت من بعيد فلمست قلبى لتحيى بعض الذكريات الدافئة التى تهون عليه ثقل الأيام.


بدأت الحكاية منذ العام الأول فى الجامعة – تعرفنا فى موقف مضحك ومرح كشخصيتنا – ومن يومها اقترن اسم كُل منا بالآخرى، وبالرغم من أننا تشاجرنا كثيراً ربما بعدد الأيام التى جمعتنا معاً، إلا أن تشاجرنا ذلك اليوم هو من صنع اللحظة الفارقة فى علاقتنا كأصدقاء.


لملمت أشيائى على عجل بعد إنتهاء أخر محاضرة تجنباً للحديث معها ظناً منى بأن غضبى سيتدفق فى وجهها كالفيضان يقضى على كل شئ، وهذا ما حدث حين افتقدت وجودى وجاءت خلفى وأوقفتنى فى الساحة العامة للجامعة لنصبح على مَرْأى وَمَسْمَع من الجميع.


أعترف بأن عتابى لها ذلك اليوم كان قاسياً بعض الشئ وربما كان ظالماً أيضاً - بفعل وساوس البعض - ولكن لسانى إنعقد فى منتصف الحديث حين هربت دموعها إلى خديّها فجأة وسرعان ما نفضت عن عقلى وساوسه وبكيت أنا الآخرى عندما أوضحت وجهة نظرها بنبرة مبحوحة وصوت مخذول حزين، وعندما انتبهت لبكائى أخرجت مسرعة منديلاً لترفع كفها الصغير قرب وجهى وتمسح دموعى بكل حنان، وكأنها تمسح كل دقائق العتاب الحزينة من عمرنا وتقول أنا هنا بجانبك وسنكمل الطريق معاً كما تعاهدنا من قبل مهما حدث.


هناك من سيقول أن الصداقات تتلاشى مع مرور الزمن، نعم فهذا يحدث ولكن بين ما يدعون أنهم أصدقاء ونسمعهم يتحدثون من وراء ظهور بعضهم البعض بالسوء، وبين آخرون مع أول فرصة عمل نجدهم يصعدون فوق أكتاف بعضهم البعض ويسحقون بأقدامهم كل معانى المودة والأخوة والصدق، وبين هؤلاء الذين تمتد أيديهم خلف ظهرك فتساعدك على الوقوع وأنت على حافة الهاوية، فقوة الصداقة ببساطة تكمن فى رباط الصدق الذى يربط بين الأصدقاء فقوته تفوق قوة الخلافات والمصالح على مر الزمان فتستمر الصداقة للآبد، لأنها ليست بكثرة الحديث واللقاء وإنما بشئ يفوق كل هذا مع كل موقف وعثرة تمر بها.


فالصديق فى قول الرافعى " هو الذي إذا حضر رأيت كيف تظهر لك نفسك لتتأمّل فيها، وإذا غاب أحسستَ أنَّ جزءاً منك ليس فيك، فسائرك يحنُّ إليك، فإذا أصبحَ من ماضيك بعد أنْ كان من حاضرك، وإذا تحوّل عنك ليصلك بغير المحدود كما وصلك بالمحدود ، وإذا مات يومئذٍ لا تقول: إنّه مات لك ميّت، بل مات فيك ميت.. ذلك هو الصديق "فهل لديكم ذلك الصديق الذي تهدون له هذه التدوينة ؟


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

جميل

إقرأ المزيد من تدوينات ندى عبد الكريم البنَا

تدوينات ذات صلة