كيف يمكننا الاستمرار من اجل تكوين بيئة رصينة في عصر التفاهة..


‏ حقيقة تصفحت "كتاب عصر التفاهة" للكاتب الكندي آلان دونو، وهو أستاذ الفلسفة والعلوم السياسية في جامعة كيبك في كندا قامت بترجمة الكتاب د. مشاعل عبد العزيز الهاجري، أستاذة القانون الخاص بكلية الحقوق جامعة الكويت، حقيقة تكلم الكتاب عن الكثير من المسائل المهمة، حيث بدأ الحديث عن الإطار العام للعبة وخطاب التفاهة والوضع الأكاديمي من جامعة وأكاديميين، ونظم وأفكار أخرى كثيرة راقية ومؤثرة في الوضع الحالي لكنني ركزت على ما يهمني؛ هو الجانب الأكاديمي والثقافي في كتاباته، فقد ذكر عن الجانب الثقافي زوايا مثل: اللغة والصحافة والكتب والتلفزيون والشبكات الاجتماعية والفن وتكلم عن المعرفة والخبرة وكيف أن الأمور العلمية الحقيقية التي تتسم بالتعقيد أصبحت مملة عند الكثير!


اقتباسات من  "عصر التفاهة" للكاتب الكندي  آلان دونو76236778917064830

الفيلسوف والكاتب الكندي آلان دونو



وتكلم أيضًا عن المثقفين الصغار، وعن الكاتب العاطل عن العمل، والمعلم غير المستقر، والأستاذ الجاهل، وعن التجارة والتمويل، والاقتصاد الغبي ومرض المال، والخبرة، والاقتصاد الجشع، ورأي الأثرياء والمشاهير، والعلاقات المنفصلة عن الواقع، وفن التخريب المدعوم، والنظرة الكارتونية للعالم، وتكلم في فصله الأخير... عن ثورة لإنهاء ما يضر الصالح العام والقطيعة الجمعية وسياسات الوسط المتطرف.


إنما أردت بهذه التقدمة أن يعرف القارئ أين يضع قدميه... وعليه أردت أن أسلط الضوء على الواقع الذي نعيشه بشيء من الواقعية لا الفلسفة المعمقة... مقتبساً من عصر التفاهة ما لفت انتباهي في هذا المجال:

يقول سقراط ان هنالك ثلاثة مرتكزات أساسية للإقناع؛ الأولى العقلانية، والثانية المصداقية، والثالثة العاطفة، وهو ما ثبت بنجاح فائق مع المجامع العقائدية، وهو أسلوب مفضل لدى رجال الدين أيضاً بالنظر لحجم المخزون القصص الديني.

اقتباسات من  "عصر التفاهة" للكاتب الكندي  آلان دونو99633427347971070


‏وحقيقة الأمر أن ذوي الفكر الحر المستنير الذين لا يتأثرون إلَّا بالعقلانية هم فئة قليلة من المجتمع، أما غالب الناس يؤثر فيهم "الميثوس" وهو المعني في الغالب الأسلوب القصصي، والذي يؤثر في غالبية الناس لدهشتهم وإقناعهم ويستخدم هذا الأسلوب رجال الدين والسياسية وغالبية المتصدين للمواضيع الكبرى المجتمعية والعالمية اليوم، فهم يستخدمون هذا الأسلوب القصصي الساذج ومحاولة تحويل الحالة الواحدة من القصة على عموم المجتمع... وهذا يوحي في نهاية الأمر إلى شيئين:

أما ضحالة المتحدث بهذا الأسلوب؛ أو أن يفترض المتحدث ضحالة المتلقي، وكلا الأمرين... لا يعجب العقلاء من المجتمع.


‏أما عن هؤلاء "المثقفين الصغار" تصدروا كل شيء! حتى في الحقل العلمي... حقيقة الأمر أنَّ أكثر ما يؤلمني الآن هو الوضع الأكاديمي ووضع الجامعات ومؤسسات التعليم أصبحت اليوم هذه الجامعات هي لغرض طلب العلم لأغراض المظاهر الاجتماعية وليست لطلب الحكمة العالية، أصبح هنالك هوس بالحصول على الشهادات الجامعية خاصة الماجستير والدكتوراه لأغراض الظهور الاجتماعي والشهرة! والمال أيضاً... لأنها أصبحت تجارة رائجة...


كتب الجغرافي والمؤلف العثماني حاج خليفة المعروف "كاتب جلبي" الذي عاش في القرن السابع عشر وهو معروف بأكبر كاتب موسوعي بين العثمانيين ما نصه "أن يقصد بالعلم غير غايته كمن يتعلم علماً للمال أو الجاه، فالعلوم ليس الغرض منها الاكتساب، بل الاطلاع على الحقائق، وتهذيب الأخلاق على أنه من تعلم علماً للاحتراف لم يأت عالما، إنما جاء شبيها للعلماء؛ ولقد كوشف علماء ما وراء النهر بهذا الأمر ونطقوا به لما بلغهم بناء المدارس ببغداد، فأقاموا مأتم العلم وقالوا: كان يشتغل به أرباب الهمم العالية، والأنفس الزكية، الذين يقصدون العلم لشرفه والكمال به، فيأتون علماء ينتفع بهم وبعلمهم، وإذا صار عليه أجرة تدانى إليه الأخساء وأرباب الكسل، فيكون سببا لارتفاعهم"


‏ للأسف المسألة الآن هي تسطيح المعرفة الأكاديمية وبيعها للجهات الممولة للجامعات من خلال المستثمرين بل تصدر للاستثمار حتى من لا يحمل المؤهلات العلمية! وبعد ذلك يسوق هذا المستثمر مجاميع من الشباب يريدون الحصول على الشهادة، فتتحول الجامعة من منتج للمعرفة إلى تجارة، يكون العمل فيها هو مجموعة من الاعتبارات الكمية والقيم التي لا تدل إلا على بائع للمنتج وزبون...


عندنا اليوم هيئة التدريس والمربين وموظفي وزارات التعليم هم داخل حلقة من القوانين التي لا تؤدي بالضرورة لنفع علمي بل أصبحت تؤدي تلك القوانين إلى مؤسسة تعليمية بوصفها حرفة.

بحيث إن الأكاديمي الذي يريد أن يعيش ضمن دائرة عمل يقودها أسلوب المخاطر ونظام يسيطر على المؤسسة التعليمية الأكاديمية، ويكون ضمن مجموعة من الباحثين يقودهم شغف المعرفة القوي والحدس القوي والخيال ويملكون مقومات العمل الصحيح، لن يكونوا ناجحين في هذه المجتمعات الحالية السابق ذكرها، والتي تسود واقعنا المعاصر لأن واقعنا المعاصر أصبح رغبة أعضاء التدريس والتربويين فيه، همهم الوحيد الحصول على منحة تمكنهم من مناورة! وسط القوانين الإدارية الرخوة!


وأن يحصل على الرعاية الكمية! لا النوعية! وأن يبحث عن ظروف خارجية تبرزه أمام المجتمع كصاحب مهنة أكاديمي! يحمل لقبا علميا كما كتبها أحد مرشحي الانتخابات التي رأيتها عبر دعايته "البروفيسور الأستاذ الدكتور... فلان" وهو ما تجعله يتمتع ‏بترف عال مجتمعي من الاستثناء والمنح والمخصصات المالية التي يحفر لها باحثا عنها لا عن المعرفة...


كما يبحث عن العطل! ويبحث عن الإجازات! التي من الممكن الحصول عليها إداريا والأموال جراء التعليم هنا وهناك من دراسات عليا ومكاتب بيع الشهادات وغيرها! ويحاول أن يجعل له فرق نخبوية داخل الجامعة وخارجها على أساس مصلحي لا على أساس معرفي!

إما أن يحفر عميقا في تربة العلم الدقيق والتخصص الدقيق ليرى جزئياته، أو أن يحلق عاليا في مجال اختصاصه الرحب... فهذا لن تتشرف وتسعد به مؤسسات التعليم الحالية ولا حتى تترك له المجال ليعطي من دقيق علمه... بقولها: لا تدعوه يتفلسف علينا.


وبذلك فإن الفساد هدد كلا من العلم والديموقراطية بشكل دائم... فقد وصلت الجامعة الفاسدة إلى كونها مؤسسة تعمل في مجالات لبيع المسميات الوظيفية لا عن الخبرات العلمية... وبالتالي أصبح ناتج المجتمع عبارة عن قضاء فاسد ومربي جاهل ومؤسسات جديدة لعرقلة العمل الصحيح وبهذا تحول العالم إداريا إلى نظام كاريكاتوري هش من الأعلى لكنه متجذر... وبهذه النتيجة تهددت الديموقراطية أيضا بل نفذ تهديده عليها وانتهى البرلمان الديموقراطي بطغيان وسيطرة عابرة للحدود تجاوزت الحدود الوطنية وخرجت أن أطر وعمل وقوانين الدولة ولمصالحها بل لمصالحهم المالية الشخصية... وبرزت المصالح الشخصية. واضمحل مفهوم الصالح العام...


في النهاية لفت انتباهي حل طرحه الكاتب.. هو إثارة ثورة بدل من الانغماس الهادئ والناعم تحت هذا الركام، لأنها سرعان ما تتكاثر وتتمدد مكونة إمبراطورية في كل مجالات الحياة، وأن تكون عدة ثورات لاستبدال ورفض مثل هكذا تفاهة... لان الاستسلام الدائم يؤدي إلى إصابة العقل البشري بالعقم من خلال الفتور المستمر دون التفكير دائما بالثورة على هذه السياسة التي تؤدي بك للسقوط على الأقل في... الوسط!


إقرأ المزيد من تدوينات مصعب ثائر جسملة | Musaab Thair

تدوينات ذات صلة