"كلما ازاح العلم طبقة من الجهل ليضيف طبقة من المعرفة ظهرت طبقات من الجهل بأسباب الخلق"


دراسة البيولوجيا خاصة على مستوي الخلية ودراسة ما يحدث من تفاعلات كيميائية داخل الغرف المغلقة بالخلية دائما ما يصيبني بالدهشة من عظمة الخالق التي تظهر في دقة التفاعلات والتنسيق والتوقيت والمكان بتكنولوجيا غير مسبوقة. ومن أهم الغرف المغلقة في الخلية هي بيت الطاقة أو الميتوكوندريا التي تصنع فيها الطاقة الجديدة والمتجددة، طاقة نظيفة في صورة جزيئات نانوية صغيرة.


ومن العجائب التي تعلمتها حديثا أن هرمون الميلاتونين الذي يفرز من الغدة الصنوبرية في قاع المخ عندما يحل الظلام لكي ننام، يتم تصنيعه أيضا في كل الخلايا وخاصة الخلايا التي تعمل معظم الوقت مثل الكبد والأمعاء وكرات الدم البيضاء وغيرها. وكانت مفاجأة كبيرة للعلماء الذين اكتشفوا وجود هذا الهرمون في الميتوكوندريا وتساءلوا لماذا يِصنع هناك بعيدا عن الغدة الصنوبرية وهو الهرمون خاص بالنوم.


الميلاتونين هو هرمون معروف كمساعد لطيف وطبيعي للنوم تفرزه الغدة الصنوبرية وهي غدة صغيرة قطرها 7.2 ملم في الإنسان توجد في المخ. وتعمل عقدة عصبية صغيرة حساسة للضوء تقع في مقدمة المخ على تنظيم افراز الميلاتونين، ويعمل ضوء النهار على تثبيط إنتاج هذه العقدة العصبية للميلاتونين.


وتتيح العتمة لهذه النواة إرسال إشارة إلى الغدة النخامية لزيادة إفراز الميلاتونين، ما يعمل على تنظيم إيقاعات الساعة البيولوجية لدينا، بما يشمل الوقت الذي يرجح أن ننام فيه ليلًا، والوقت الذي يرجح أن نصحو فيه نهارًا. وفي كل عام، عندما يتغير طول النهار، تغير الغدة النخامية إفرازاتها من الميلاتونين، وتعمل على تعديل ساعتنا البيولوجية لتتناسب مع التغيرات الموسمية.


المدهش أن العلماء قد اكتشفوا أن الوظيفة الأساسية لهذا الهرمون في الميتوكوندريا في الخلية هو كعامل مضادة للأكسدة لكل المواد سيئة السمعة (الشوارد الحرة) التي تم تكوينها كنواتج ثانوية أثناء تصنيع الطاقة. وبهذا تضمن الخلية وجود آلة مستمرة تعمل على كنس كل ما هو ضار بأي من البروتينات ومكونات الخلية لتحميها من الدمار ومن الشيخوخة. ولوحظ فاعليته في تحسين وظائف التمثيل الغذائي بطريقة فعالة جدا مع تحسين استهلاك الأوكسجين، ليقلل من مستويات الشوارد الحرة الناجم عن الإجهاد ويمنع تدمير غشاء الميتوكوندريا لجميع خلايا الجسم وخاصة خلايا الجهاز المناعي التي تعمل أثناء الليل والنهار.


ويعتقد العلماء أن مريض الزهايمر يواجه أولا خللاً في "ميتوكوندريا" الخلايا العصبية في الدماغ، حيث يختل توازن الطاقة، ما يؤدي إلى الإصابة بأحد الأمراض العصبية، وذلك حسب حالة الجسم العامة والمميزات الوراثية وظروف البيئة المحيطة وغيرها من العوامل. وقد وجد أن العلاج بالميلاتونين يساعد هؤلاء المرضي في تحسين اعراض المرض.


العجيب أن العلماء الذين اكتشفوا وجود الميلاتونين في داخل غشاء الميتوكوندريا وجدوا أن مستوياته تمثل ٩٥٪؜ من اجمالي الميلاتونين الكلي بالجسم حيث يمثل ميلاتونين الغدة الصنوبرية والمسؤول عن ضبط إيقاع النوم هو ٥٪؜ فقط لا غير.


وقفت أمام هذا الاكتشاف متعجبا من خلق الله المحكم في هذه المصانع المتناهية الصغر داخل

الخلية التي تعمل بدقة واتقان دون أن نسعر بها. وبهذا نري أن هناك ميلاتونين لليل وآخر للنهار. وبالطبع العمليات البيولوجية والكيمياء التي تتم أثناء تصنيع ميلاتونين النهار داخل الميتوكوندريا معقدة جدا واشك لو استطاع العلماء أن يبنوا مصنعا مثلها يحاكيها في صنعتها.


وسبحان العلي القدير الذي خلق الليل والنهار وقدر كلك أسبابه.

مع خالص تحياتي

د. محمد لبيب سالم

أستاذ علم المناعة كلية العلوم جامعة طنطا

www.mohamedlabibsalem.com




ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

https://www.youtube.com/watch?v=vnHLE_Jb1tg

إقرأ المزيد من تدوينات د. محمد لبيب سالم أستاذ جامعي واديب

تدوينات ذات صلة