"يتمتع الدماغ بقدرة مدهشة على التعافي من المشكلات المرتبطة بالحرمان من النوم مجرد ضبط دورة النوم"


من منا لا يعاني من قلت النوم وما يصاحبه من قلق وأرق وتوتر يؤثر علينا جسديا وذهنيا. أصبح معظمنا وللأسف رهين لظاهرة عصيان النوم. فقد أصبح النوم عدو انسان التكنولوجيا التي تحاصر العين والعقل والقلب والجسد فتبقي كل الجوارح عصية على النوم إلا تحت تأثير الأدوية التي تساعد على النوم حتي أصبح مدي اتساع نطاق استخدامها يشبه استخدام الأدوية المسكنة للآلام أو الخافضة للحرارة أو مسكنة للاتهامات.


وإذا كان الأمر كذلك، فهل صحيح أن النوم أقل من ثماني ساعات في الليلة يؤدي إلى المزيد من النجاح، المزيد من الإنتاجية، والمزيد من الثروة؟ إنها حقًا ليست بهذه البساطة لأن كثرة العمل معناه قلة النوم وقلة الراحة البدنية والذهنية، لأن النوم أقل من 8 ساعات ليس صحيا بالمرة. فبناء على الدراسات التي أجريت في آخر 10 أو 15 عامًا على علاقة عدد ساعات النوم بالصحة، فقد اتضح أن التمثيل الغذائي والجهاز المناعي يتأثران تمامًا بالحرمان من النوم. وكذلك القدرة على امتصاص الأطعمة بشكل مناسب تتأثر، وعلى محاربة العدوى، وكذلك العديد على العديد من العمليات الفسيولوجية الأخرى. فالأشخاص الذين لديهم فترات طويلة - سنوات عديدة - من قلة النوم هم أكثر عرضة للإصابة بالسمنة، ومرض السكري من النوع الثاني، وبعض أنواع السرطان. هذا بالإضافة إلى العيوب قصيرة المدى مثل مشاكل الذاكرة، وانخفاض أوقات رد الفعل، والإرهاق، والتي ربما عانى منها معظمنا بعد ليلة نوم سيئة.


فهل هناك طرقًا لوقف أو على الأقل الحد من الحرمان من النوم إن لم يكن باستطاعتنا النوم لمدة ثماني ساعات متواصلة. وهنا يأتي تأثير الغفوة أو ما نطلق عليه "القيلولة" فنظرًا لأن معظم الناس حاليا لا ينامون الوقت الكافي فهم عادة ما يجربون طرقًا جديدة ومختلفة لتعويض ذلك باختراع طرق جديدة للنوم، والذي ينتهي ببعض جداول نوم غريبة - بعضها على الأرجح أكثر نجاحًا من البعض الآخر.


في عام 1943، على سبيل المثال، اقترح مقال في مجلة TIME طريقة للنوم اخترعها ريتشارد بكمنستر فولر، حيث كان ينام ساعتين في اليوم على فترات مدتها ثلاثون دقيقة. على ما يبدو، استمر في هذا الأمر لمدة عامين قبل أن ينزعج زملائه من جدوله الزمني حتى اضطر إلى التوقف. وبصفته باحثًا في الحرمان من النوم. وهناك الكثير من جداول "النوم متعدد الأطوار" مثل طريقة "فولر"، التي تعتمد على نظام نوم أقل، ولكن بجرعات أكثر تواترًا. ولكن اتضح أن هذه الجداول لا تعمل بشكل جيد على المدى الطويل - نظرًا لأنك لا تزال تنام بضع ساعات فقط على مدار 24 ساعة – و اتضح أيضا أن النظام الأنسب لمعظم من كانوا تحت الدراسة هو الحصول على قيلولة حيث وجد أن هناك بعض الأدلة على أنك لست بحاجة بالضرورة إلى النوم كله في وقت متواصل. ففي الكثير من بيئات العمل، قد يحصل الأشخاص على فترة نوم أساسية تصل مدتها إلى أربع أو خمس ساعات، وبعد ذلك قد يكملون قيلولة مدتها ساعة أو ساعتان في فترة ما بعد الظهر. وهي الطريقة التي كان يستعملها أباءنا وبعضنا ونحن صغار على غرار العادات في الزمن الماضي.


بالتأكيد، يمكن أن يكون للقيلولة أسماء رائعة ويمكنك استخدام استراتيجيات خاصة - أطلق عليها اسم "قيلولة الطاقة"، إذا كنت ترغب في ذلك - لكن الطول لا يهم حقًا. خلاصة القول هي أن الأشخاص الذين لا ينامون بما يكفي يجب أن يأخذوا قيلولة أكثر. ومع ذلك، لا يمكننا العيش على القيلولة وحدها. حيث إن أدمغتنا تحتاج دورة نوم واحدة على الأقل كل ليلة لإبقاء كل شيء على ما يرام. هذا بسبب وجود "تشريح" أساسي لنومنا ليلاً، يتكون من عنصرين رئيسيين: حركة العين السريعة أو نوم الريم Rhythm، والنوم غير الريمي Non-Rhythm.


وينقسم النوم غير الريمي إلى ثلاث مراحل. المرحلة الأولى هي عندما تنتقل إلى النوم، وتستمر فقط لبضع دقائق. المرحلة الثانية هي نوم خفيف حيث تنخفض درجة حرارة جسمك وتتوقف حركة العين؛ في بداية الليل، يستمر هذا لمدة 10-25 دقيقة، لكنه يطيل مدة نومك. المرحلة الثالثة هي نوم الموجة البطيئة، والتي تحدث غالبًا في النصف الأول من الليل. هذا هو نوع النوم الذي تحتاجه لتنتعش في الصباح.


يختلف نوم الريم Rhythm كثيرًا عن النوم الهادئ الذي لا يزال غير ريمي Non-Rhythm. إذا كنت ترفس أو ترتعش أو تقوم بنوع آخر من الحركة وأنت نائم، فمن المحتمل أن تكون في هذا القسم من النوم. هذا أيضًا جزء النوم الذي تحلم به. كل هذه الأقسام المختلفة من مراحل النوم مهمة لأسباب مختلفة، ولكن يُعتقد أن المرحلة الثالثة بشكل خاص تشارك في استعادة واستعادة الدماغ، وكذلك الحفاظ على النوم بشكل عام.


الأهم من ذلك، أن هذا الأمر برمته يدوم فقط حوالي 70 إلى 120 دقيقة لكل دورة، لذلك حتى مع النوم لمدة أربع أو خمس ساعات، فإنك تحصل على جميع المكونات اللازمة لراحة جيدة. يمكن أن تساعد القيلولة الصغيرة بعد ذلك في استكمال فترة النوم الكبيرة هذه. وإذا لم تكن القيلولة البسيطة كافية لك، فعليك أن تحتسي القهوة قبل القيلولة وهو الأمر الذي بالطبع سيكون مثيرًا بشكل خاص لعشاق القهوة. فقد وجد أن تناول القهوة قبل أخذ قيلولة يزيد من العمق في النوم.


فبجانب التأثيرات الجسدية الأخرى للقهوة، فإن الكافيين يمنع مركبًا يسمى الأدينوزين من التراكم في أدمغتنا. ومن المعروف أن الأدينوزين هذا يقلل من معدل إطلاق أنشطة الدماغ ويساعدنا على النوم؛ ولكن بمجرد أن تناول القهوة ثم ننام مباشرة، يتم تخزين الأدينوزين حتى وقت الاستيقاظ ليبدئ في تنشيط المخ من جديد بعد القيلولة (بعد الظهر) أو حتى بعد النوم ليلا ليبدأ يوم جديد كله نشاط وحيوية. لذا، فإن تناول القهوة والنوم معًا يجعلك تستيقظ منتعشًا أكثر من أي منهما بمفردك. وقد يفسر ذلك لماذا يحب من يعملون في البنوك تناول القهوة، حيث تعتبر أسهل طريقة للنوم يمكننا جميعًا الوصول إليها.


ولأن الشخص العادي لديه ارتفاع كبير في هرمون الكورتيزول - وهو هرمون التوتر – خاصة وقت الصباح عند الذهاب إلى العمل – وهذا أمر طبيعي جدًا لمعظم الناس- فمعظم الناس ليست بحاجة لتناول القهوة في الصباح، ولكن الناس يريدون تناول لأنهم يشعرون بالخمول قليلاً. ولذلك، فإن تناول الكافيين في وقت متأخر من الصباح سيساعدك على قضاء فترة ما بعد الظهر، دون إبقائك مستيقظًا طوال الليل. وقد يفسر ذلك لماذا دائما السياسيون يقولون إنهم يستطيعون العيش لساعتين فقط من النوم. من يدري فقد يكون ذلك بسبب فعل القيلولة.


كما هو الحال مع العديد من السمات المتغيرة الأخرى بين البشر بعضهم البعض، فإن الحظ يحالف بعض الناس في يانصيب النوم الجيني. فهناك بعض الأشخاص - بعض الناس يحتاجون أكثر والبعض الآخر يحتاجون أقل الذين يمكنهم بطبيعة الحال الحصول على قسط من النوم أقصر بكثير حسب بصمتهم الجينية، تماما كبصمة كل منا المتعلقة بالطول أو الوزن.


بالطبع، الحصول على قسط أقل من النوم وشرب القهوة لا يتعلق فقط بزيادة الإنتاجية. بل الأهم أنه يساعد في التخلص من الأرق أو القلق عند الأشخاص الذين يعانون من قلة النوم، فالقيلولة هنا تساعد في تهدئة الأصوات الصاخبة في رأس المرء بسبب القلق عن طريق النوم. ولحسن الحظ فإن الدماغ يتمتع بقدرة مدهشة على التعافي من المشكلات المرتبطة بالحرمان من النوم بمجرد ضبط دورة النوم، وهنا سوف نرى أيضًا أن بعض هذه الآثار الذهنية والفسيولوجية تختفي.


ومن أشهر الناس الذين كانوا يعتمدون على القيلولة هو العالم إديسون الذي كان يعمل ليلا ونهارا في اكتشافاته في الكهرباء، فقد كان ينام تحت مكتبه أو في الاجتماعات - في بعض الأحيان كان يغمى عليه أينما كان. ولذلك قامت زوجته بتركيب سرير أطفال في ركن من غرفة مكتبه حتى يكون لديه على الأقل مكان يستلقي فيه.


لذا، في المرة القادمة التي تشعر فيها بأن الغفوة قد تكون مضيعة للوقت، تذكر أنها عكس ذلك تمامًا. إذا تمكنت من الحصول عليها، فلا يوجد هناك حقًا طريقة أفضل للإنتاجية من قيلولة سريعة وسط النهار. ولكن من منا يستطيع فعلها، أنا شخصيا افعلها كلما لاحت لي الفرصة، وبعدها أشعر بالفعل بانتعاش غريب وكأني نمت ساعات.


فلتكن القيلولة جزء من نظام العمل اليومي ولو لنصف ساعة في كرسي المكتب.


خالص تحياتي

د. محمد لبيب سالم

أستاذ علم المناعة

كلية العلوم جامعة طنطا

وكاتب وروائي


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات د. محمد لبيب سالم أستاذ جامعي واديب

تدوينات ذات صلة