نظرية "الخلق الموجه" تعتقد أن تركيب وتطور وظائف الأعضاء في الكائنات الحية يعتمد على دور الكائن الحي المحدد له في الحياة.
من عجائب علم المناعة: تأملات في نخاع العظم
قد يظن بعض الناس أن نخاع العظم موجود فقط في عظام الإنسان، ولكنه موجود أيضا في كل الحيوانات الفقارية (أي التي بظهرها عمود فقري) ويقوم تقريبا بنفس الدور. أما الحيوانات البدائية تطوريا مثل الحشرات والعناكب والديدان واللافقاريات عموما وحتى بعض أنواع الأسماك فلا يوجد بها عظام ولا نخاع عظم.
ورغم أن نخاع العظم معروف بأنه هو مكان تصنيع خلايا الدم والخلايا المناعية، إلا أن الله سبحانه وتعالي أعطي الحيوانات التي تخلو من نخاع العظم وسائل أخري تجعلها قادرة على تصنيع خلايا الدم آيا كانت هذه الخلايا بدائية أو متقدمة.
ونخاع العظم Bone Marrow في الإنسان والحيوانات الفقارية هو المكان الأساسي الذي تتكون فيه خلايا الدم الحمراء والصفائح الدموية والخلايا المناعية بأنواعها (حوالي 13 نوع) من المصدر الأساسي به وهي الخلايا الجذعية الموجودة بوفرة فيه. فخلايا الدم الحمراء يتم تصنيعها فيه بالكامل، وتخرج منه كاملة النضج. أما الخلايا المناعية، فمنها ما يتم تصنيعه بالكامل في نخاع العظم ويخرج منه ناضجا مثل الخلايا المناعية البائية وكل أنواع الخلايا غير المتخصصة. أما الخلايا الوحيدة التي تتكون فيه ثم تخرج منه في صورة غير ناضجة فهي الخلايا المناعية الليمفاوية التائية T cells التي تهاجر منه بعد فترة من تطورها إلى الغدة التوتية Thymus gland (غدة صغيرة فوق القلب مكونة من فصين) لتنضج هناك إلي نوعيها: القاتل Killer T cellsوالمساعد Helper T cells وذلك قبل خروجها إلي الدم ومنه إلى أنسجة الجسم الأخرى.
ويفسر هذا الدور المهم لنخاع العظم التأثير الضار الكبير للعلاج الكيماوي على معدل تصنيع خلايا الدم والخلايا المناعية بسبب تأثيره السريع والقوي على ما يحتويه من خلايا مما يسبب ضعف مناعي شديد للمريض بسبب موت معظم هذه الخلايا، سواء تلك التي مازالت في مرحلة التصنيع أو في مرحلة النضج، مما يؤدي إلى سهولة تعرض المريض لعدوي ميكروبية.
وإذا كان الأمر كذلك في الإنسان والحيوانات الفقارية العليا (بدء بالأسماك والبرمائيات والزواحف والطيور وانتهاء بالثدييات)، فماذا عن نخاع العظم في هذه الحيوانات ودوره في تكوين خلايا الدم والخلايا المناعية. سنجد أن نخاع العظم في هذه الحيوانات بدء من البرمائيات فهو موجود ويقوم بنفس الدور الذي يقوم به نخاع العظم في الإنسان. أما في الأسماك فالوضع يختلف قليلًا أو كثيرًا طبقًا لنوع الأسماك، فيما إذا كانت أسماك غضروفية أو أسماك عظمية وذلك على النحو التالي:
• أما الأسماك الغضروفية Cartilaginous Fish مثل الشارك الصغير أو كلب البحر أو Dogfish Shark، والتي يدل اسمها على وجود غضاريف بدلًا من العظام، فلا يوجد بها نخاع عظم. وعِوضًا عن ذلك، توجد في هذه الأسماك الغضروفية أعضاء أخرة تقوم بتكوين خلايا الدم وهي عضو Epigonal organ الموجود بالقرب من الأعضاء التناسلية وعضو Leydig organالموجود بجدار المريء. هذا بالإضافة إلى الطحال الذي تستخدمه أيضًا هذه الأسماك في تكوين الخلايا المناعية.
• أما الأسماك العظمية Bony Fish فرغم أنها (كما يبدو من اسمها) تحتوي على عظام وبالتالي تحتوي على نخاع عظم كما في الإنسان، إلا أنه مكانًا فقيرًا لتكوين خلايا الدم والخلايا المناعية، فهو يستخدم بصورة محدودة جدًا في تكوين هذه الخلايا. وعِوضًا عن ذلك تقوم هذه الأسماك بتكوين معظم خلايا الدم وخلاياها المناعية بصورة كبيرة في الجزء الأمامي من الكلية Anterior part of the kidney or Pronephros والذي يسمي أيضًا برأس الكلية Kidney Head بالإضافة إلى الطحال كما في الأسماك الغضروفية.
وبهذا نرى أن الأسماك الغضروفية ليس بها نخاع وتستعيض عن ذلك بأعضاء أخرى، والأسماك العظمية بها نخاع، ولكن لا تستخدمه بصورة كبيرة في تكوين خلايا الدم والخلايا المناعية، مما يعني أن وظيفة النخاع لا تعتمد على وجود العظم، بل هما وظيفتان منفصلتان في الأساس. وقد تفتح هذه الظاهرة بابًا واسعًا لدراسة العلاقة بين نخاع العظام والعظم في الإنسان.
- اما عن نخاع العظام في الطيور، فرغم أن الطيور تحتوي على عظام وبالتالي على نخاع عظم، إلا أنها تعتمد على عضو آخر غير نخاع العظم في تكوين وتمام نضج نوع خاص من الخلايا المناعية وهي الخلايا الليمفاوية البائية B cells وذلك في غدة خاصة موجودة فقط في الطيور حول فتح المجمع (وهى الفتحة التي تصب فيها فضلات الجهاز البولي والإخراجي)، والتي تم تسميتها على اسم عالم التشريح والطبيب والجراح الإيطالي Hieronymus Fabricius الذي اكتشفها ووصفها في الطيور عام ١٦٢١م. ولكن دورها في تكوين الخلايا المناعية البائية تم اكتشافه بالصدفة عام ١٩٥٦م على أيدي إثنين من طلاب الدراسات العليا بجامعة أوهايو بأمريكا هما Bruce Gluck and Timothy S. Chang عندما اكتشفا أن الدجاج الذي تم ازالة هذه الغدة منه لم يستطع تكوين اجسام مضادة. ثم اكتشف عالم المناعة الأمريكي المعروف Max Cooper الوظيفة الدقيقة لهذه الغدة في الطيور.
وهذا الدور الفريد الذي تقوم به هذه الغدة في الطيور لتكملة أحد الوظائف الكبرى لنخاع العظم (تكوين الخلايا المناعية البائية B cells له حكمة كبيرة من الخالق، وذلك لأن نصف عظام الطيور تقريبًا تكون مجوفة وإسفنجية لكي تكون خفيفة وتساعد على الطيران، والنصف الباقي يقوم ببعض وظائف نخاع العظم وهي تصنيع الخلايا المناعية ما عدا الخلايا البائية التي يقوم بتصنيعها "غدة فابريشاس" Fabricius من خلال الخلايا الجذعية التي تصلها من الكبد أثناء المرحلة الجنينية. ولذلك فدور هذه الغدة يضمر مع العمر.
وهكذا ندرك من دراسة علم المناعة حكمة الله في خلقه طبقًا لكل مخلوق، حيث صمم مكان وزمان الأعضاء طبقًا لوظيفة كل عضو في كل كائن حي.
ويدلل ذلك أيضا - من وجهة نظري الشخصية - على نظرية "الخلق الموجه" (أي من قبل الخالق العظيم)، والتي تعتقد أن تركيب ووظائف الأعضاء في الكائنات الحية ومدي تطورها يعتمد على دور الكائن الحي الدقيق والمحدد في الحياة، وذلك على عكس نظرية التطور التي تعتقد في تطور الكائنات الحية من بعضها البعض من خلال سلسلة متتابعة من الانتخاب الطبيعي العشوائي عبر ملايين السنين. أما طبقًا لنظرية الخلق الموجه، فالكائنات خلقت في أحسن تصميم يناسب وظيفتها طبقًا للبيئة التي سوف تعيش فيها، حيث نجد بعض الوظائف المتطورة في كائنات قديمة وأقل تعقيدًا في التركيب من كائنات حديثة وأكثر تعقيدا.
فليس من الضرورة أن يكون التطور ملازم للتعقيد، فقد يكون الحيوان أقل تطورًا على العموم، ولكنه يحتوي على بعض الوظائف الأكثر تعقيدًا على وجه الخصوص. ومن خلال الأمثلة التي قدمتها هنا عن نخاع العظم، نستطيع أن نستقرأ ملاحظة شيقة وهي أن الخلق الموجه يحدث أيضًا على وجه العموم بصورة متطورة وليست فجائية.
وسبحان الخالق العظيم الذي خلق كل شيء فأحسن خلقه. ولله في خلقه شئون.
د. محمد لبيب
أستاذ علم المناعة
كلية العلوم جامعة طنطا - مصر
روائي وكاتب في تبسيط العلوم
وعضو اتحاد كتاب مصر
التعليقات