كلمات قليلة صادقة تبلغ مدى أبعد من كلمات متزاحمة لتشكل فنا. وكلما صدقت القول كلما عجز التعبير عن خيانتك







هناك كتابات ناجحة، وكتابات أقل نجاحا. ثم هناك كتابات مبهرة، تكاد تنسبها للمارد الذي بداخلك.


العامل المشترك بينها، هو الكلمات التي تتفنن في رصها، والعامل الذي يتباين فيها هو مقدار الصدق الذي تكتبه. كلمات قليلة صادقة تبلغ مدى أبعد من كلمات متزاحمة لتشكل فنا. وكلما صدقت القول كلما عجز التعبير عن خيانتك.

لكن هل تجرأ أن تكون كتابا قبل أن تكون كاتبا. أن تكتب عن خيبات أملك، عن عثراتك، وعن فرحك الطفولي، بقدر ما تكتب عن أحوال العالم حولك.


معظم الكتاب يمجدون هالة الغموض. يحبون اللون الأسود للكتابة، مع أن الألوان لا تنقص من المعنى شيئا. يكتبون عن اللاشيء وعن كل شيء في ذات الجملة. يكتبون عن أولئك الاخرين، لا عن أنفسهم. يرمقون العالم بنظرة انتقادية تتربص بكل ما يدور حولها بحثا عن الأفكار. ويحبون فكرة أن يكون الكاتب راهبا يتأمل حال الدنيا، من فوق جبل من الأوراق المتراكمة.


ربما منزلة الكاتب تفرض عليه شيئا من العمق، وتفرض عليه الابتعاد عن الطبقة الجاهلة. بالرغم من أن الجهل لو وضع له اختبار ما نجح فيه أحد. فالكل جاهل ما دامت معرفته لا تتعدى نفسه، وحتى النفس في عالم المعرفة لا نهاية لها. ومن يدعي المعرفة أجهل من الجهل نفسه.


ثم إني، بمعرفتي التي قد أختزلها في الكثير من الحصص التي حضرتها جسدا بلا عقل، قررت بعد أن أخدت دبلوم الهندسة بيدي، أن اللون الموسيقي الذي يطربني، لا يليق بهذا الدبلوم. فأمام الملأ، تلك الفنانة استعراضية، لا تمت للفن بصلة، وكلمات أغانيها مبتذلة. ومع نفسي، أرقص على نفس الأنغام، وأردد نفس الكلمات المبتذلة. فلم قد ألوم كاتبا يدعي المثالية.


لكني أحب ذلك الكاتب البسيط، الذي يعيش يوما عاديا بكل تفاصيله، يوما أقرب للفئة الكادحة، منه للفئة الحالمة. فهو لا يكتب ليحلم، بل يكتب ليعيش تفاصيل يومه العادي أكثر.

وما الضير في يوم عادي، ومن قرر أن العادي لا يستحق أن تصف الكلمات لوصفه. ربما العادي أعمق من المثالية الحالمة. ليس ربما، بل هو أعمق.


لم تكن الكتابة يوما حكرا على أصحاب البدل السوداء، والسجائر الرخيصة التي تنتهك الجسد لتغذي الروح بشيء من العمق، أو أصحاب القهوة المسائية القاتمة. قد تجد من يكتب وسط زحام يومه العادي، أمام فنجان شاي. يكتب عما يراه كل يوم، ولا يهمه اكثر من ذلك.


لكن هذا التنوع في الكتابات جميل، هكذا كل منا يجد ما يشبع روحه. فان كنت انسانا عاديا، أستقل الباص كل صباح، وتلمع عيناي أمام الأفلام المدبلجة، لن تعبر روحي كلمات عن تطلعات ودركات النفس. أما ان كنت ارستقراطيا، أرتاد النوادي لأدردش عن سفرياتي الباريسية، وعن أني اكتفيت من الروتين اليومي نفسه. فتصنيفي في هرم ماسلو يلزمني بالبحث عما قد يعكر صفو مزاجي قليلا، مثل حتمية الموت، وواقع أن مجوهراتي الغالية لن تصلح لشيء في القبر.


ثم هناك أنت، تتخبط بين هذا وذاك. تقرأ كل شيء، وفي كل شيء تجد جزءا منك. كل كتابة تغذيك من أبسطها الى أعمقها. ببساطة تنتمي لكل شيء، ولا تنتمي في الواقع الا لنفسك.


فيما مضى، كنت أحاول أن أجد الكاتب في كتاباته. وكنت مؤمنة جدا، ولا زلت، أنه حين نكتب، نكتب عن ذواتنا قبل كل شيء. قد تكتب عن الحياة فوق القمر، أو عن لحظة في التاريخ، لكنك لن تستطيع أبدا أن تخفي نفسك من بين السطور.


ليست الكتابة أبدا فن تشكيل الكلمات الرنانة، بل هي أن تظهر نفسك علنا. وكلما كبر الجزء المعروض للقراءة، كلما كانت كتاباتك أجمل. ذاك انها الأصدق، والأصدق يعبر كل روح مهما كان انتماؤها.



ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات مدونة فاطمة

تدوينات ذات صلة