وصل أخيرا باص ثالث ,كان عددنا في الطابور قد نقص , ولم يمنع ذلك من تدافع الناس لركوب الباص ,

أخيراً استطعت الصعود والتقاط كرسي وجلست بجانبي أمرأة مع طفلها ونظرت نحوي السيدة التي حشرتني بأسئلتها الكثيرة بإمتعاض فقد كانت تود الجلوس بجانبي وإكمال مرحلة اقناعي بالزواج من أخو زوجها !!


تحرك الباص بعد اكتماله , المرأة التي تجلس بجانبي كانت تمسك بقوة كيس أسود صغير وكيس شيبس , وطفلها على حجرها وجهه ملطخ ببواقي الطعام وفي يده قطعة شبس مبللة بلعابه . وكان يسعل طوال الوقت وأنفه مليء بالمخاط . رفعت الأم طرف منديلها بسرعة عندما انتبهت أنني أنظر نحوه ومسحت وجه الطفل فبدأ بالبكاء .

أحيانا تلك التفاصيل تلفتني ! لم أكن أقصد أن اتمعن في وجه طفلها المتسخ كنوع من الاستنكار إنما تلفتني تلك التفاصيل التي لم أعهدها . شعرت أنني يجب أن أكون أكثر لطفاَ في نظراتي وأكثر انتباهاً لمشاعر الآخرين .


كان معظم الناس في الباص يحملون في أيديهم كيس أسود بلاستيكي , ( الكيس الأسود) علامة مميزة في الأردن ! تشعر أنه ابتكر لطبقة معينة . وتستطيع أن تقرر ما يحوي بداخله بحسب شدة الأمساك به من قبل صاحبه ومن حجمه .

فهو قد تراه كبير مليء بالخضروات والفواكة في يد موظف عائد لبيته , أو أدوية , ولا يغرك الحجم الصغير المهتريء والقبيح منه فقد يحوي أوراق ثبوتية هامة وجوازات سفر وأحيانا مبالغ مالية !! استخدمه البعض عند نقل مبالغ كبيرة كنوع من التمويه !! وكثيراً ما تسمع قصص عن أشخاص أضاعوا أشياء ثمينة كانت بداخله لأنهم ألقوا الكيس في لحظة غفلة !! أنه كيس الشعب . واعتقد لن يحاول الأغلبية استبداله بحقيبة لأنهم يشعرون بالأمان بحمله .

ولا أنكر أنني دوما لدي فضول لمعرفة ماذا يوجد في كل كيس أسود يمر من أمامي !!


قطع سرحاني بالكيس كنترول الباص وهو يطلب مني الاجرة , أعطيته الأجرة بعدما سألته بالرغم من معرفتي ثمنها مسبقاً ! سألته المرأة أيضا عن الأجرة ؟ يبدو أنها تزور ضليل لأول مرة !

نظر الكنترول نحوي وسألني : وين رايحة الصبية ؟ أنا : لمركز الضليل الصحي التخصصي ,

كنترول الباص : الحكومي ؟

أنا : لأ الخاص أكمل الكنترول : أه الي عند نقابة الغزل والنسيج ؟؟ تذكرت هنا اللافتة التي رأيتها فوق لافتة العيادة : أه هناك , بس نوصل ممكن تخبرني ؟ ابتسم صبي الكنترول وهز رأسه بالإيجاب.


نظرت نحو المرأة وسألتني : إنت مريضة رايحة تتعالجي؟

أنا : لأ أنا طبيبة أسنان هناك . أزحت رأسي نحو الشباك فوراً بعد هذه الإجابة خفت أن أدخل في دوامة الأسئلة وأجد نفسي أمام عرض زواج جديد !

المرأة : وين هذا المركز .

أنا : ما بعرف أشرح وين اليوم أول يوم دوام بس هو متل ما حكى كنترول الباص عند نقابة الغزل والنسيج .

المرأة : طيب عندهم دكاترة شاطرين ؟

أنا : يمكن والله لسه ما بعرف , إذا إنت من سكان المنطقة تعالي للمركز .

المراة : غالي ؟

نظرت نحو طفلها وأكملت كلامي : ما بعرف خالتو كيف الأسعار زي ما حكتلك اليوم لسه أول يوم .

المرأة : لو أجيت بتعمليلي خصم .

شعرت بالإحراج من طلبها : طيب خالتو إن شاءالله إنت شرفينا للمركز وإن شاء الله الأسعار ما تكون غالية .

عدلت المرأة جلستها وأصبحت اكثر استرخاء , أكملت مشاهدة الطريق من الشباك , مساحات واسعة من العشب الأصفر , وتلال , وأغنام ترعى بدى لي المنظر مريح للعين .


كنت في العادة أحب الجلوس في منتصف الباص ليتسنى لي مشاهدة أكبر عدد من الأشخاص ومراقبة تصرفاتهم وطول المسافة سيجعل الفرص أكبر للحصول على تفاصيل بشرية لتأملها.

كان هناك رجلين يجلسان أمامي وأحدهم يظهر عليه أعراض مرض البهاق ( مرض خلل في تصبغ البشرة ) والرجل الذي يجلس بجانبه واضح أنه لا يعرفه من البداية وكان ينظر نحوه بقلق ويوجه له أسئلة أكثر قلقاً

الرجل الأول : طيب هو معدي .

الرجل المصاب : لا لا ما بعدي .

الرجل الأول : حتى لو لمستك .

الرجل المصاب : ما بعدي لأنه مرض داخل الجلد .

كان الرجل المصاب فعلياً يتوسل للرجل أن يصدقه أن المرض غير معدي كان كلما يوجه كلمة للرجل الآخر يدقق في وجهه كأنه يتأكد أنه تم تصديقه بالرغم ان الرجل الآخر هو مجرد راكب عابر قد لا يلتقيان مرة أخرى ,شعرت بالشفقة اتجاه الرجل المصاب بالبهاق فهو غير مضطر أن يبرر بقوة عن حالته وأن مرضه غير معدي ! في المقابل لايزال الرجل الآخر متوجس من العدوى . كنت أود الخوض في النقاش وتأكيد أن المرض غير معدي .


بدأ الركاب يتناقصون من الباص وشعرت أن الرحلة طالت , لم يبقى في الباص إلا رجل وأمرأة طلبوا بالنزول عند أحد المصانع عندها تحرك الباص ونظر نحوي كنترول الباص وهو يسلمني باقي الأجرة في يدي : أه إنت وين قلتي بدك تنزلي ؟ إحنا صرنا في نهاية الخط , صدمت عندما قال ذلك وشعرت للحظة كأنني طفل تائه يوشك على البكاء ,كنت لازلت أمسك بيدي باقي الأجرة . التفت سائق الباص نحوي وسألني عن وجهتي فأخبرته عن المكان , لم يرد بل قام بالرجوع بالباص للخلف وفجأة وقف وأخبرني أننا وصلنا , نظرت من الشباك لأرى امامي الممر الترابي الذي مشينا خلاله أنا وأبي المرة الماضية فشعرت بالاطمئنان.

نزلت من الباص ووقفت أمم الممر الترابي ومن ثم نظرت في كف يدي لأرى أن باقي الأجرة , لاحظت وجود ورقة صغيرة بين النقود المعدنية ففتحت الورقة ووجدت فيها رقم هاتف !!

نظرت نحو الباص وهو يبتعد , ضحكت !! نوع غريب وجديد للتعرف علي !! شعرت فجأة بشعور غير جيد فبالرغم من طرافة أسلوب التعرف إلا إني شعرت بالخوف بعدم الراحة ,بداية غير مطمئنة !


مشيت نحو الممر , خرجت دجاجتين تهرولان من الدكان الموجود في أول الممر , غير ذلك المكان هاديء ,نظرت نحو ساعتي كانت قد قاربت 10 صباحاً ,لقد تأخرت كثيراً في أول يوم لي في الدوام .

وصلت لمبنى المركز الصحي , استقبلتني رائحة النعناع المزروع في حوض حديقة المكان ,رائحة النعنع كانت كفيلة لتعديل مزاجي .


دخلت , لأرى الجميع مجتمع أمام مكتب الاستقبال وهناك صينية على طاولته يبدو أنه الفطور , شعرت بالإرتباك حاولت الابتسام لأسمع صوت أبو خالد العالي وهو يلوح بلقمة حمص كانت في يديه : أهلا دكتورة فكرناكي بطلتي بدك تيجي ! لم أفهم هل كان ذلك عتاب على التأخير أم فتح باب الحوار لأول مرة معي فقد كانت عينيه تضحك بينما يقول تلك الجملة. ثم أكمل ضاحكاً: شكله حماتك بتحبك تعالي أفطري .


كنت مشوشة بين تبرير سبب تأخري وبين التركيز في الوجوه الموجودة حتى سمعت صوت المرأة الوحيدة التي تقف بينهم : دكتورة إنت متزوجة ؟ التفت نحوها لأتذكر أنها المرأة التي استقبلتنا أنا ووالدي لأول مرة . لم أكد أجيب على السؤال إلا أن نظر أحد الموجودين نحوي وهو يمسك لقمة ويضعها في فمه : لأ شكلها مو متزوجة . كان المتحدث شخص طويل ونحيف أسمر البشرة ومحني الظهر يبدو صغيراً لكن وجهه ا يوضح أنه حمال للهموم !


عاد صوت أبو خالد ليرن في المكان ليخبر الجميع أنني طبيبة الأسنان الجديدة وبدأ بتعريفي بأسماء الأشخاص ,أشار نحو الشخص النحيف وقال : دكتور عبدالله المعتر , بنسميه معتر لأنه منحوس و طبيب عام للمركز والمصانع( ضحك الدكتور عبدالله على تعليق أبو خالد ). وجه الدكتور عبدالله كلامه نحوي وقال : كيف كان مشوارك لهون ؟ شعرت أنها حجة مناسبة لأخبرهم أن سبب تأخري هو أنني تهت والباص تعدى منطقة النزول وكيف أنني خفت وقتها ,كنت أروي التفاصيل بكل عفوية بدون التدقيق في كلامي كطفلة تروي لأهلها أول رحلة لها في المدرسة ,كان الجميع يراقبني والابتسامة تعلو وجوههم كأنني مشهد كوميدي ! هنا بدأت أركز في الأشخاص الموجودين , كان هناك شاب يقف بثبات مع ابتسامه يتابع كلامي عرفني عليه أبو خالد أنه نائب مدير العيادة أسمه الدكتور ذياب , وخرج الدكتور سامي الذي رأيته المرة الماضية من غرفة جانبيه وكان لتوه انتهى من تشخيص أحد المرضى وكان الغضب بادي على وجهه حيث بدأ بالتذمر من تصرفات المريض بشكل فوقي ومن ثم وقف مع الجميع ليكمل كلامه بينما يناوله أبو خالد رغيف خبز ,لم أكمل قصتي , هنا طلب مني أبو خالد إكمال القصة , ولم أكد أبدأ بالكلام حتى سمع صوت الدكتور سامي وهو يقول : قبلتي الوظيفة ؟غريبة؟


نظر الجميع نحوه باستغراب ! ضحك الدكتور عبدالله ا وزاد انحناء ضهره وهو يضحك وجسده يتجه للأسفل , نظر الدكتور ذياب نحو الدكتور سامي وقال : ليش يعني ما تقبلها ؟ رد الدكتور سامي : بنت وفي ضليل !! عاتب أبو خالد بصوت عالي الدكتور سامي : ليش شو بده يصير فيها ؟ حناكلها ؟! وكمان هي قد حالها ودكتورة ما يغرك الحجم ! ضحك الجميع على كلام أبو خالد , أكمل أبو خالد كلامه : ما بدنا ضلك هيك ضعيفة سيبك منه وتعالي كلي لازم يعرفوا أهلك أن إحنا مهتمين فيكي وبنغذيكي لازم تنصحي ليش هيك ضعيفة ؟ لوهلة شعرت أنني أمام جدي ! أبو خالد إنسان عفوي لطيف لا تشعر أنه مدير العيادة بل إنك أمام والدك أو جدك واضح أنه لا يكتر لأحد حيث تخرج الكلمات حادة وطريفة في نفس الوقت (مزيج غريب) , منذ ان رأيته للمرة الأولى شعرت بالارتياح له .


بينما يناولني أبو خالد رغيف خبز أشار نحو المرأة الوحيدة وأخبرني أن إسمها (أم نوفل) وهي اللآذنة ,الآذنة في المؤسسات هو شخص يفعل كل شيء فهي التي تنظف العيادة , ممرضة أحياناً, تستقبل المرضى, حلالة مشاكل هي شخص فضولي جداً وناقل قوي لأخبار المنطقة فخلال وقوفنا سمعت قصص لثلاث أشخاص في البلدة من تزوج ومن طلق ومن سجن تبدو كأنها نائبة المدير وهي تخبرني بثقة عن مهامها في المكان وأنه تم اختيارها لأنها تسكن قريبة من هنا وتعرف كل أسرار المنطقة ولا مانع ان تكون جاسوسة أيضا وتجلب العديد من الزبائن واخبرتني أن لديها 7 أولاد اكبرهم ب 24 وأصغرهم سنة !!وأن أحد أولادها توفي غرقاً في برميل بالخطأ في أحد الأيام الماطرة . أكمل أبو خالد أن أصولها من مدينة بير سبع الفلسطينية .


كان الأكثرية يكبرونني بالعمر فالدكتور عبدالله في الاربعينات من عمره لكنه يبدو أكبر سناً, يضحك كثيراً ويبدو طيباً ومرناً مع الجميع ,يفاجأك رغم خجله أنه متحدث ومطلع عرفني أن أصوله من بير سبع أيضاً وأنه عاش طفولته بأكملها في الإمارات , عندما ردد اسم الإمارات شعرت براحة فدائما ًتشعر بشعور الاطمئنان عندما تشعر أن هناك من يشبهك في المكان . أما الدكتور ذياب فهو من عشيرة بني حسن الأردنية كما بدأ أبو خالد بالتعريف عنه , , كانت أسمع دوماً عن هذه العشيرة لكن معلوماتي لم تكن عميقة عنها , يكبرني بأربع سنوات كان الدكتور ذياب شاب أسمر البشرة ,عينيه ضيقتين لوزيتين رمادية قصير القامة ويرتدي بدلة كان واثق في كل كلمة يقولها , تبدو شخصيته قوية وصارمة من ردوده على الدكتور سامي ( يبدو انهما غير متفقان) .

التركيز على الأصل لطالما كان يزعجني فلم اتعود على أن يسألني عن تفاصيل عائلتي في الامارات كما يحصل معي دوماً في الأردن , تلك التفاصيل لتاريخ عائلتك وأصلك أحد الحوارات الهامة في أي تجمع ,وكنت دوماً لا أكترث لتلك التفاصيل ويربكني في الاردن سؤال : إنت من وين ؟

عندما سألت من أين أنا قال أبو خالد بصوت عالي وهو يضحك : أكيد بلجيكية ! ابتسمت وأومأت برأسي . ليكمل كلامه ضاحكاً : كلنا هون بلجيكيين ما عدا الدكتور ذياب !


"بلجيكي" مصطلح يطلق على الفلسطيني في الأردن مصطلح قديم ظهر في بداية النكبة ويستخدم لصنيف الاردني إن كان من أصول فلسطينية أو أردنية وخلف المصطلح عدة قصص , قيل أنه بسبب خيم اللاجئين الفلسطينين كانت تأتي من بلجيكا في 1948 , وهناك قصص أخرى تذكر أن الأسلحة المستخدمة من قبل الفدائيين كانت تأتي من بلجيكا والله أعلم



الدكتور سامي تشعر أنه غير سعيد في هذا المكان ! هناك تعالي في كلامه , ناقد لكل شيء , عرفت أنه يعمل هنا مجبراً إلى حين ظهور تعينه في الإمتياز في أحد المستشفيات وهي خطوة يقوم بها أكثر أطباء العام في الاردن العمل في مكان لوقت ظهور تعينات التخصص وطبعاً لم ينسى أبو خالد أن يعرفني أنه هو و الدكتور سامي أصولهم من نابلس .

انتهينا من طعام الفطور لم استطع الاعتذار عن المشاركة فرفض مشاركة الطعام عند أبو خالد تعتبر جريمة كما أخبرني الدكتور عبدالله ! كان الفطور مكون من خبز طازج ( شراك) , حمص , فول وفلافل ولبنة وخضار مقطع وصحن عسل .


طلب أبو خالد من أم نوفل أخذي للعيادة لأتعرف عليها , لحقنا الدكتور سامي وبينما نحن ندخل همس خلفي الدكتور سامي : إنت من كل عقلك حتخلي أم نوفل تشرحلك عن العيادة !

تظاهرت أنني لم أسمع شيئاً !

وظعت حقيبتي على كرسي , اقترب الدكتور سامي من حقيبتي ورفعها لفوق : شو نوع هذه الحقيبة ؟ وبدأ بتقليبها ! لأسمع ضحكات من أم نوفل التي كانت تنظر نحوي لتشاهد ردت فعلي .


كان الموقف غريباً ومزعجاً وغير مريح .


ليتبع



Areej Toyllywood

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات Areej Toyllywood

تدوينات ذات صلة