لماذا لم تعد الثقافة المعاصرة العربية رافداً للثقافة الشعبية، بل تعد غريبة ولا يستسيغها الوعي العربي العام؟
عندما يتكلم التنويريون المستغربون في مجتمعاتنا عن صدام داخل مجتمعاتنا العربية بين مجتمعات تقليدية وفكر حداثي ينقلونه كمترجمين، دون أدنى نوع من النقد الذي يستلزم انتقاء النافع والصالح لمجتمعاتنا وطرح ما لا يتناسب معها، وبالتالي يستلزم دراسة عميقة لمجتمعاتنا ومشاكلها الحقيقية، بدلاً من استيراد مشاكل الغرب الاجتماعية وإسقاطها بتعسف على مجتمعاتنا؛ فنحن نتحدث هنا عن قطيعة تولد الصراع بين مجتمع يقلد تراثه الثقافي الديني بجهل ودون فهم لأنه لا يملك إلا التمسك بجذوره في عالم عاصف من حوله، وبين فكر يدعي الحداثة بينما هو أيضاً يقلد تراثاً حديثاً لحضارة استعمارية تسيطر بثقافتها بعد مرحلة سيطرتها العسكرية على العالم، فهو صراع تقليد ضد تقليد داخل مجتمعات تعاني منذ قرون من عمليات متتالية من الاستعمار والاحتلال والحروب والتهميش والإفقار، ولا يتاح لها فرصة النهوض من كبوتها لتشرع في استيعاب نفسها وتنظيم مجتمعها وبناء ثقافتها الخاصة الحديثة النابعة من تجربتها التاريخية والحاضرة، ولا يمكنها النظر في الفكر الحداثي المستغرب بمصطلحاته الغريبة عنها، إلا كنوع آخر من الغزو لها، تحاول الوقوف في وجهه كعملية مقاومة، لا كفكر ينبغي التوقف وقراءته ونقده وأخذ ما ينفع فيه ونبذ ما يتناقض مع ثقافتها وعقيدتها وأعرافها الأخلاقية والاجتماعية.. وبالتالي وهي لا تملك إلا التمسك بما توارثته وتألف معانيه، ترفض هذا الذي يمجد أفكار من ظلت ولا تزال تعاني من حروبه ضدها.. ولا يبذل حتى محاولة شرح ما ينقله بلغة تفهمها، بل ويحقر ويسفه تراثها الديني والثقافي كله ويطالب بحرقه وينتقده من منظور أعدائه التاريخيين ومستشرقيهم بكل فخر..هذه القطيعة بين النخبة المثقفة ومجتمعها هي حالة أنتجها المثقفون والسلطة الداعمة لهم، لا مجتمعاتهم.. فالمجتمعات لا تنتج ثقافتها بل تربى على عقائد وأعراف وتقاليد تثقفها وتحدد غاياتها وأهدافها وسلوكها وأخلاقها الاجتماعية.. وهي أمور ينتجها الوعي العلمي المثقف في تربة مجتمعه بعد أن يدرسها ويعلم ما البذور التي تصلح لها وتثمر بها حضارتها، لا أن يأتي المثقف مشرعاً فأسه دون تمييز ليقتلع جذورها وأشجارها بكل تعالي لزراعة بذور معدلة اجتماعياً من بيئة أخرى لأنه رأى أنها منتجة ومثمرة وصالحة في مجتمعها الخاص!..والتنويريون درسوا بكل تفاني مجتمعات الحضارة الغربية والثقافة التي قامت عليها منذ نهضتها وحتى الآن، منبهرين بالتقدم والرقي والتنظيم والهالة الفكرية التكنولوجية الغربية، لكنهم حين عادوا من رحلتهم لم يقوموا - إلا قليل لم يأخذ حقه في النشر والاستيعاب - بدراسة مجتمعاتهم بل لاموها على تخلفها وهاجموا تراثها وانتقدوه فرزاً له، لا بما يصلح لزماننا وما هو من الثوابت، ولا بما يتعلق بسياق زمانه ولا يصلح أن يطبق في زماننا، بل انتقدوه بمعيار ما يتفق مع فلسفة التنوير والحداثة الغربية وما لا يتفق معها!!!..وهذا ظلم بيّن لمجتمعاتنا وثقافتنا من مثقفيها الذين ينظرون إليها من سماء الغرب الذهبية ويتعالون عن وضع أقدامهم في طين تربتها الأصيلة؛ فقد حرموها بقطيعتهم هذه معها من مصدرها للترقي في سلم الثقافة الشعبية!.
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات