وهل حقا أصبح الانسان في خضم هذا العصر المسمى بعصر التكنلوجيا عاجزا عن فهم نفسه أو اصبح فهمه لنفسه وسلوكه الخارجي اقل بكثير عما كان عليه قبل عدة قرون؟!

تكنولوجيا السلوك البشري


ربما اصبح من الضروري ان تكون تكنولوجيا السلوك البشري ذات مستوى يضاهي في القوة والدقة التكنولوجيا الفيزيائية والبيولوجية للإنسان فذألك هو المعيار الذي يتم القياس عليه , ومع ذألك فهي مازالت بعيدة جدا عن الوصول للحد الادنى لذألك المعيار وهذا هو الدليل الواضح على مدى العجز الموجود لدى البشرية.

وهنا نتساءل هل وصول الانسان لهذا المستوى المتقدم من التكنلوجيا والمغامرات البشرية في الفضاء هو أسهل من تربية طفل في مدرسة صغيرة أو حتى محاولة فهم سلوكه ، أم هو أسهل من أيجاد حلول حقيقية لمشاكل مستعصية مثل مشاكل السكن أو العمل أو حتى الحصول على حياة ذات مستوى متقدم أو مريح؟ فعلى الرغم من استخدام جميع أدوات العلم المتقدم في القياس والمقارنة والاحصاء مازلنا نجد أن هذه القواعد الأساسية في جميع الدراسات العلمية غير موجودة في تلك الدراسات أو المحادثات المتعلقة بالسلوك البشري.


وهنا نتساءل عند مشاهدتنا لأي سلوك بشري لماذا هذا السلوك أوما هي دوافع هذه الممارسة ؟

وهل حقا أصبح الانسان في خضم هذا العصر المسمى بعصر التكنلوجيا عاجزا عن فهم نفسه أو اصبح فهمه لنفسه وسلوكه الخارجي اقل بكثير عما كان عليه قبل عدة قرون؟!


لمحاولة فهم أكبر للموضوع دعونا اولاً نحدد ما هي طبيعة النفس البشرية :

أستطاع علماء النفس التقليدين (سنتعرف على معناه بعد قليل) تحديد ثلاث شخصيات للنفس البشرية ينتج عن تفاعلاتها مع بعضها البعض بالضرورة أي سلوك أنساني وهي : الذات ( الانا Ego- ) و الذات العليا (Superego) وأخيرا اللاشعور الغريزي ( هو – ID)، وهذا التقسيم يعتبر الأساس لتفسير الذهني أو العقلي لسلوك الإنساني ( التفسير التقليدي) والذي يرفض التعامل مع الاتجاهات العلمية لتفسير أي سلوك أنساني.

نعود مرة أخرى الى سؤالنا عن السلوك البشري فنرى أن أرسطو ذألك الفيلسوف اليوناني العظيم كان يحاول أثبات أن أي جسم ساقط سقوط حر باتجاه الارض يتسارع وتزداد سرعته لأنه يصبح أكثر ابتهاجا اذ يجد نفسه يقترب أكثر فأكثر من غايته ومستقره وهي الارض ! أي أن سلوك ذألك الجسم المتمثل بزياده سرعته ناتج عن شعور داخلي بالبهجة والسعادة نتيجة وصوله الى غايته ومستقره.

ونرى أيضا أن مجموعة كبيرة من علماء الإنسانيات مثل علماء الادب والفلسفة واللغة وما الى ذألك يتحدثون عن السلوك البشري على الطريقة قبل العلمية ( التقليدية) فمثلاً الشاعر حين يخرج بقصيدة أنما هو في الواقع يعبر عن ما يجول بداخله من مشاعر وأحاسيس ، أي أن الفعل الإنساني أو السلوك الإنساني هو ناتج عن أحساس أو شعور داخلي لدى ألانسان وهذا ما يطلق عليه الطريقة التقليدية في تفسير السلوك الإنساني وهي طريقة معاكسة تماما للطريقة العلمية والتي تقول بأن النفس الانسانية هي جزء مادي محسوس ذو كيان يتحكم بتصرفات الأنسان ويسمى (العلم السلوكي).

لذألك نرى أن الاعتراض من علماء الطريقة التقليدية على العلم (السلوكي) هو نتيجة فرض صورة (مادية) على أفكار ومشاعر الانسان وارادته أي اعتراض على المادية التي يزعم أن النفس البشرية مصنوعه منها والتي يطلق عليها أسم (الملكات الشخصية).

اذاً فالطريقة التقليدية في تفسير سلوك الانسان ترى أن كل شعور أو أحساس لدى الإنسان يؤدي ألي شعور أو فعل أخر فمثلا الشعور بالخيبة والانكسار قد يؤدي الى العدوانية والعنف فالمشاعر والأحاسيس الانسانية تتفاعل مع بعضها البعض حتى التي تصبح خارج الذهن الانساني تناضل بقوة للعودة اليه مرة اخرى ، لذألك فأن أي استبعاد للعالم العقلي والذهني والانتقال الى عالم أخر مادي يؤدي الى مشاكل محرجة وأسئلة كثيرة بلا أي إجابات.

وعليه نجد أن عالم العقل يستأثر بالاهتمام ويحول دون الاعتراف بالسلوك الانساني على انه موضوع مستقل قائم بذاته أو مادي ففي الطب مثلا نجد أن جميع الافعال المزعجة والغير مريحه يتم تفسيرها على الاغلب على انها أعراض أو شعور ناتج عن شعور أخر داخل الانسان لذألك يعتبر سلوك الإنسان الخارجي صورة سطحية أو الوجه الظاهر لما يحدث من أحاسيس جياشة وعظيمة داخله وعليه نستطيع ان نعرف ما يتم انتاجه في مجال الادبي مثلا ليس الا تعبيراً وانعكاسا لتلك الافكار والمشاعر الموجودة داخل الاطار الذهني والعقلي للإنسان.

ولو انتقلنا لمجال اخر مثل المجال الديني أو السياسي او الاقتصادي سنجد أن السلوك الانساني يعتبر المادة الفعلية والاسلوب الرئيسي الذي يستدل به على مواقف و احتياجات الانسان وحتى نياته ايضاً ، وعليه ظل التركيز قديما منذ 1000 او 1500 عام على الحياة العقلية والذهنية لتوضيح السلوك البشري ولم يكن هناك أي جهد بأي اتجاه أخر الا مؤخراً ، فنحن لا نشعر أو نلمس أو نمسك بشكل مادي تلك الأشياء التي اخترعت لتفسير سلوك الإنسان فالإنسان الذي به قلق لا يحس بالشيطان الذي استحوذ عليه (كما في الروايات القديمة) لا بل قد يذهب الى أنكار الشيطان اصلاً والانسان الذكي أو الانطوائي لا يلمس او يمسك فعلا بذكائه أو انطوائيته.

ومع ذألك نجد أن ديكارت مثلا (وهو من أكبر الفلاسفة ذو الاتجاه العقلي) قد أفترض أن البيئة والمجتمع المحيط بالإنسان يلعب الدور الأكبر في تحديد سلوك وتصرفات الإنسان وهذا التأثير للبيئة والمجتمع دعَي (الحافز) في حين دُعي التأثر من قبل الكائن الحي (الاستجابة) والاثنين معا يشكلان( فعلاً) يسمى (فعلاً منعكساً) وهذا يعتبر مثال على احدى أكبر الصعوبات التي تواجه التحليل العلمي هو ذألك الوصف الذي يردُ السلوك الانساني فقط الى الحالات الذهنية والمشاعر والطبيعة الانسانية وما الى ذألك.


ربما تتحول تكنلوجيا السلوك الى معرفة متيسرة للإنسان في المستقبل لكنها لن تكون قادرة على حل مشاكله الا بعد أن تصبح في مكان النظرة التقليدية (ما قبل العلمية) وهذه الاخيرة جدا محصنة ولديها مقاومة عالية جدا ضد أي وجهات نظر أخرى، ومثال على ذألك الحرية والكرامة فهما من خصائص الانسان الذي يتمتع بالاستقلال (في النظرة التقليدية) لذألك نراهما ذات أهمية عالية في تلك الممارسات التي يسأل فيها الانسان عن سلوكه وتصرفاته أو يثاب فيها عن إنجازاته ، أما اذا أستخدمنا التحليل العلمي فنرى أن كل من المسؤولية والإنجاز يتم ربطهما بالبيئة التي نشأ فيها هذا الأنسان ، لذألك يطرح هنا سؤال مهم عن القيم والمبادئ التي تحدد تصرفات أي أنسان وطريقة اكتسابها ، ومن يستطيع تحديدها أو تعريفها لذألك يبقى السؤال من يستعمل هذه التكنلوجيا ومن يحددها ولأي هدف يتم بنائها وتعريفها.

لذألك ستبقى هذه المشاكل والقضايا عالقة وسبب رئيسي في رفض التحليل العلمي لحل مشاكل الانسان الا أن نصل الى حل مناسب لها.





ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

تدوينات من تصنيف علم نفس

تدوينات ذات صلة