من حسن أدب المرء خفض جناحه للناس، وأخذهم على قدر عقولهم.. لا أن يسخر منهم ويضحك عليهم
قد رأيت الكثير من الزملاء والناس يضحكون على هذا الظاهر في الصورة بسبب أخطاءه الإملائية في كتابة عبارة "القدس عاصمة فلسطين" ولذلك سأقوم بتوضيح..
ليس العيب في أن يخطأ المرء في كتابة عبارة ما نظرا لكونه ربما لم يكمل دراسته، أو لقلة علمه مادامت النية حسنة، والعقيدة صحيحة؛ فإن الله تعالى خلق وفرّق بين عباده في العقول كما فرّق بينهم في الأرزاق، وقد جعل سبحانه هذا التفاوت بين الناس في العلم سنة إلهية فقال :{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} وذلك حتى يتحقق مبدأ التسخير، فينتفع الفقير بالغني، ويتعلم الجاهل من العالم، ويستخدم الضعيف القوي؛ وهكذا.
إنّ هذا الرجل وإن كان دافعه حمية الدين الإسلامي والغيرة على تلك البقعة المباركة فأخطأ في الكتابة والتعبير لقلة علمه أو تسرعه.. حاله يشبه حال ما حُدِّثَ به -ضعيفا- فقيل أنّ رجلا تعبّد في صومعة، فمطرت السماء، فأعشبت الأرض، فرأى حمارا يرعى فقال: يا رب لو كان لك حمار لرعيته مع حماري، فبلغ ذلك نبيا من أنبياء بني إسرائيل، فأراد أن يدعو عليه، فأوحى الله تعالى إليه: إنما أجازي العباد على قد عقولهم.
فطبيعي جدا أن يكون هذا التفاوت بين الناس في الذكاء والفهم، وطبيعي جدا أن يتصرف ويبادر كل واحد منهم على قدر مكتسباته ومنظومة مفاهيمه، فمنهم من يستطيع كتابة المقالات، ومنهم من يستطيع أن يدعو دعاء مستجابا، ومنهم من هو أقل تماما من هذا كله، فلا يقدر إلا أن يتلفظ عبارات عامية بلسانه ليس إلا.. ويخاصم ويجادل ويدافع عنهم بذلك، وهو يظن أنه قد كفى ووفى.
إنما اللوم على المتعيلمين الذين صدّعوا الرؤوس، وأزكموا الأنوف طيلة سنوات بالإنسانية والتعاطف مع بقية شعوب العالم..
وهؤلاء قد أنبأ الله سبحانه عنهم وعن أمثالهم ممن سبقوهم من الأمم السابقة فقال: { لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ • وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ • إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاء رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}
فحين جد الجد وبلغ الأمرُ المسلمينَ في غزّة، لم نسمع لهم حسيسا ولا ركزا، ولم نقرأ لهم حرفا واحدا، ولم يبذلوا أدنى جهد وطاقة، ورأيتهم يدُسُّون رؤوسهم في التراب كالنعام؛ المتشدقون، المتنطعون بعدد اللغات التي يتقنونها ويتكلمونها، وعديد المهارات التي يكتسبونها.. ولكن دون أدنى توظيف فيما يُصلح ولو كان ذلك بانتهاج المنهج السليم بالتوجيه نحو السبل الصحيحة للنصر، ونشر المعلومات المفيدة النافعة بخصوص انثروبولوجيا فلسطين وتاريخها.
هذا من الجانب الديني، أما من الجانب السيكولوجي؛ فإن هذا النوع من الناس وأمثالهم الذين يعشقون تصيد الأخطاء اللغوية، والذين يُصيبهم ضيق شديد وذُعر عند اكتشاف خطأ نحوي وعدم تصحيحه؛ هؤلاء ممّن يترصّدون أحاديث الناس في الاجتماعات واللقاءات المختلفة، ويقفون كشرطي لغة على الكلام في محاولة لالتقاط خطأ نحوي واحد، وإثبات قدراتهم المرتفعة وكفاءتهم في علوم اللغة والنحو بتصحيح هذا الخطأ.. فإن هاته الفئة من الناس يُعانون من متلازمة التحذلق النحوي grammar pedantry syndrome.
ولسنواتٍ طويلة، حاول الناس فهم المتلازمة وما الذي يسببها، وفي دراسة أُجريت سنة 2016 لإيجاد علاقة بين متلازمة التحذلق النحوي وبعض الخصائص الشخصية، اتّضح أنّ المتلازمة لا علاقة لها بالعمر أو الجنس أو المستوى التعليمي.. ومع ذلك أشارت النتائج إلى أنّ الأشخاص الانطوائيين كانوا أكثر عرضة للتضايق من الأخطاء اللغوية النحوية والمطبعية.
كما أنّ هناك دراسات أخرى ربطت بين المتلازمة واضطراب الوسواس القهري، ووفقًا لهذه الدراسات قد تكون متلازمة التحذلق اللغوي شكلًا من أشكال الوسواس القهري إذا بدر من أولئك الذين يُعانون من المتلازمة قلقٌ متزايدٌ تجاه الأخطاء النحوية، وهو ما حدث بعد أن انتشرت الصورة أدناه على مواقع التواصل الاجتماعي كالنار في الهشيم.
إنّ الإنشغال بالصغائر والقشور، والاستخفاف بالناس وتصيُّد هفواتهم.. لدليل على هشاشة العقول، وبرهان على العقد النفسية المعششة في الصدور التي ينبذها الإسلام.. فالنبي صلى الله عليه وسلم خطب في الناس ووعظَهم في ضحكِهم من ضرطة أحدهم فقال: علامَ يضحك أحَدُكم مما يفعل ؟!
فهذا النهي منه صلى الله عليه وسلم كان عن ضرطة تصدر طبيعيا من جميع أبدان الناس، وليست حكرا على شخص معين، فما بالك بمن يهزأ بالعيوب والمساوئ ويُشهر بها !؟
ورحم الله الذي قال:
لا تكشفنَّ مساوي الناس ما ستروا
فيهتك اللهُ سترًا عن مساويكَا
واذكر محاسنَ ما فيهم إذا ذُكِرُوا
ولا تعِبْ أحدًا منهم بما فِيكَا
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات