في هذه التدوينة، سأسرد مختصرا عن قصة ابني معاذ، الذي توقع الطاقم الطبي ان يموت بعد ولادته

بن شكاو/ ولاية المدية/ البلد: الجزائر

مع حلول شهر نوفمبر العام 2014م ، حان موعد ولادة ثاني ابنائي، الذي اخترت اسمه مسبقا: معاذ، اخذت أمه الى المستشفى على متن سيارتي القديمة من طراز رونو Laguna 01 عام 1995، كانت ليلة ضبابية جدا اظطرتني للسياقة بسرعة جد منخفظة، و كانت زوجتي تتقلب في الكراسي الخلفية من شدة الألم.


ساعات بعد الوصول، تشتكي الي زوجتي وقاحة إحدى الممرضات التي قالت لها: لماذا تكثرين الذهاب و الاياب في الرواق، إلزمي سريرك ولا تقلقي كثيرا فهذا الطفل لن يعيش أصلا، لا أذكر التفاصيل اتي حدثت بعد ذلك..


ولد معاذ، لم يمت، بحثوا عني و سلموه لي في قطعة من قماش خشنة، طلبوا مني أن أصعد به الى الطابق العلوي حيث مصلحة طب الاطفال، حتى يكمل نموه شيئا فشيئا في الصندوق الزجاجي، بعد ساعات بدأت أسمع عن أزمة صناديق، العدد لا يكفي لاحتضان جميع الأطفال الخدج الذين ولدوا في ذلك المستشفى، و لكن معاذ كان محظوظا ليعيش فيه أياما أخرى.


بعد بضعة أيام، سلموني معاذ لأصطحبه الى البيت، فهمت أنه خروج مسبق نوعا ما، و أنهم يريدون اعطاء الفرصة لطفل آخر كي ينجو من الموت، أخذت معاذ و حجمه مثل هر صغير في أسبوعه الثالث، أدخلناه الى الغرفة حيث نصبت مدفأة جديدة, و أحطناه بالقطن و الفراش اللازم، و مرت بضعة أيام أخرى.


بدأت حالة معاذ تتدهور يوما بعد يوم، قلت حركته و بدا كأنه شمعة تنطفئ، أخذناه على جناح السرعة الى طبيب أطفال، فحصه لثوان ثم بدت على وجهه علامات لاتبشر بخير، اتصل بطبيب اخر و راح يشرح له حالة معاذ بمصطلحات طبية فرنسية لم استوعب اغلبها، ثم اقفل الهاتف و قال: حاول أن تصل الى مصلحة طب الاطفال في المستشفى في أقرب وقت ممكن، حياة ابنك في خطر.


خرجت من عيادته مسرعا، و زوجتي تجري خلفي و تتبعني في الممرات الضيقة التي تختصر الطريق الى المستشفى، وصلنا الى مصلحة طب الاطفال، كان من بين الطاقم اثنين من جيراننا و معارفنا فارتحت لذلك كثيرا، تلقى معاذ الاسعافات الاولية بجدية و حظى بالكثير من المراقبة.


و لكن، ما هي الا ساعات، قضيت معظمها أنظر اليه من الرواق عبر زجاج النافذة، حتى بدا أن شيئا على ما لا يرام، كان معاذ يضطرب في مكانه بشدة كأنه يختنق، هرعت لأنادي الممرضة، جاءت إليه مسرعة و بدأت تمارس عليه بعض الاسعافات، و لكن ردة فعلها كانت مخيفة جدا..


أخذت معاذ و انتقلت في هلع الى القاعة المجاورة و خلفها زميلاتها يصرخن و يطلبن النجدة من رئيس الطاقم، ثم ماهي الا دقائق حتى عدن بمعاذ الى سريره و هو سالم معافى، و بعد مدة لا أذكرها عدنا بمعاذ الى المنزل و انتهى الكابوس.


كان معاذ كثير البكاء، و صوته رغم صغر سنه مرتفع جدا، لدرجة تثنيك عن التحمل، مرت الأسابيع و الشهور و معاذ يتحسن من حال الى حال، أصبح حجمه بعدها كحجم رضيع عادي ثم كحجم صبي عادي، مشى معاذ ثم هرول و تعالت ضحكاته و صرخاته، لكنه لم يتكلم، توقعنا أن يتكلم في عامه الثالث، لكنه لم يتكلم، ثم اعتقدنا ان يتكلم حتما في الرابعة، لكنه لم يفعل، لاحظنا أن معاذ لا يلتفت الينا عندما نناديه على بعد بضعة أمتار، ثم بدا أحيانا كأنه يقترب من التلفاز أكثر من اللازم حتى يسمع ما يقال، بحثت عن تقرير طبيب الأذن و الحنجرة الذي أعد في المستشفى بعد الولادة، كان كل شيء فيه عى ما يرام.


اخذنا معاذ الى اخصائية ارطوفونية، كانت تتمتع بخبرة ملفتة للانتباه، اقترحت علينا اجراء فحوصات شاملة لتتبع المشكلة، و كانت البداية مع التخطيط السمعي pipe show، تبين بعده أن معاذ يعاني من نقص حاد في السمع (90 بالمئة تقريبا)، كان ثمن السماعات باهظا جدا، حوالي 06 أضعاف راتبي، كان لدي خيار أقل تكلفة بكثير و هو تحصيل السماعات عن طريق الضمان الاجتماعي، حيث ادفع خمس المبلغ كاش، و الباقي تعوضه الاقتطاعات الشهرية التي تحول من الراتب الى خانة الضمان الاجتماعي.


و لكن، مشكلة اخرى، مصلحة تصنيع و بيع لواحق المعاقين دخلت في اضراب مفتوح، اضطررت للانتظار لعدة أشهر لأتمكن من دفع ملف لطلب اللواحق السمعية، ثم اشهر أخرى تخللتها الكثير من التدخلات و الاتصالا المباشرة مع المديرية العامة لمصالح ONAAPH لتصنيع و بيع لواحق المعاقين، و كان ردهم مطمئنا جدا، حيث وصلت السماعات بعد بضعة أيام من الاتصال بهم عبر صفحتهم على الفيسبوك.


بدأ معاذ ارتداء السماعات في منتصف عامه الرابع تقريبا، تفهمنا حقيقة أنه لن يتكلم بطلاقة قبل مرور بضع سنوات يتلقن فيها الحروف و الكلمات من البداية تماما كما يفعل الطفل في حوله الثاني.


في الخامسة من عمره، كان معاذ يبدو غير مؤهلا حتى ليندمج في روضة أطفال، كان عصبيا و مفرط الحركة، خاصة في غياب والديه، مع ذلك سجلناه في روضة خاصة عندما وعدتنا مسيرتها أنها ستساعده على اكتساب الحروف و التأقلم مع الأطفاال الاخرين، و لكن الحقيقة كانت غير ذلك، كانت الروضة غير احترافية بالمرة، كان معاذ يصرخ كثيرا و ينتفض حتى يصبح معاذ الذي لا نعرفه و يقلب الطاولات و الكراسي، كلما كان يفعله القائمون على الروضة هو تصويره في فيلم جديد و ارساله لنا بتذمر و كأنهم يقولون أن ابنكم لا يصلح لان يكون فردا من الروضة.


عندما شاهدت الفيديوهات، كان معاذ يشكوا لمعلمته من استفزازات زملائه في الروضة، تضايق من سخريات الاطفال كثيرا و كان يبدو أنه يطلب منها أن توقفهم عند حدهم، و لكن لم يكن يفهم أحد، سوى والداه طبعا، حكيت كل شيء لاخصائية نفسية فنصحتني بسحبه من هذه الروضة على الفور، و ذلك ما حدث.


وصل معاذ الى السادسة من عمره، و حان موعد تسجيله في الصف الابتدائي، كنت متخوفا كثيرا من الأمر، و كان تخوفي في محله، صارت ادارة المدرسة تراسلنا كثيرا عن كثرة حركته و عدم التزامه بالصف و تأثير ذلك على زملائه و على البرنامج الدراسي الذي تلتزم به المعلمة، و لكن، ما باليد حيلة، ليس من حقهم أن يحرموا معاذ من المدرسة، التعليم في الجزائر اجباري و مجاني، و لا يحق لي و لا لادارة المدرسة حرمان معاذ من حقه في التعليم..


قدمت ملفا لمديرية الضمان الاجتماعي حتى تخصص مرافقة لمعاذ في القسم، كان له ذلك رغم صعوبة هذا الامر في الغالب، لكن مع مرور الوقت، صارت هذه المرافقة كثيرة الغياب و التهاون، تبحث عن طريقة لتمضي وقتها و تأخذ أجرتها دون أن ترافق معاذ!


صار معاذ مع ذلك أقل اضطرابا من ذي قبل، أكثر حبا للعب و للدراسة، و لوالديه و اخوته، تحصل مع ذلك على معدلات مشرفة، و صار لديه خط جميل، و ابتسامة أجمل.


حفظ الله معاذ، و جنبه منة البشر.، أتمنى أن يكمل الجزء الثاني من هذه المقالة يوما ما بنفسه.


إلى الملتقى.



khei-bra

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

تدوينات من تصنيف عائلة

تدوينات ذات صلة