[ الجدة في دور الأم حُبًّا ومَودّةً وانتِماء، فالجَدّة أم تَعاقَب عليها الأجيال ]

هُناك حَيثُ الصّباح الذي يَبدأ بأذانِ الفَجر إذ يَنسَلُّ خيطُ السَماء الأبيَض من خيطِها الأسوَد لحظَة أن تَدُقّ ساعَتُها البُيولوجيّة، يَصيحُ الدّيكُ عَلى تَوقيتِ يديها حينَ تَشرَع بالتّكبيرِ والصَلاة، ثُم تَجلِسُ عَلى سجادتها إلى أن تفتَح بيديها أبواب السّماء للشَمس فَتُشرِق عَلى ألفاظِ فِطرَة التَشَهُد الأولى، فلا تَلبث إلا أن تَجلِس بِثوبِها المُطرّز الذي يَروي سِرّ الضَحكَة التي لا تخفِيها تَجاعيدُ الوجه، تُصلّي الضُحى كَتراويحِ عابِد، ثُمّ تَتَربّع لِتُصلّي عَلى يَديها موسيقى "المِهباش" كآلَةٍ قديمَة توحي لِربابَة الأعراب وحيَ الروح. حينَها يَحبِسُ الصُبحُ ريحَه؛ يتنَفّسُ بريحِ القَهوَةِ العربيّة، يَتجَلّى بالهيل المُحمّص، فيَنشُر شَذاهُ مِن عبير الحُبّ المُتدفق.


هُناك حَيثُ الجَلسَة الأرضيّة التي تَحكي سِرّ الحُب المُسال بينَ البَساطَة والسَعادَة، حيثُ الشّفاه التي لا يُحركها إلا طيبَة القَلب الذي لا يَعرِف للكُره مَعنى، يَتَجلّى الغِنى عَلى مائِدَة الطّعامِ بخُبزٍ مُحمّر عطّرته يدُها فكانَ ريحه أشهى من الموائِد الفاخِره، أمّا مُشتقّات الحليب الطازَج والتّمر فوجبَة صحيّة مُتكامِلة، يُضافُ إليها كوبُ الشاي المَخمور بأوراقِ النّعنع المَسقيّ كُل يوم بحَنانِها ثلاثَ مرّاتٍ كَوجباتِ قِطّتها المُدللة، حينَها وقَبلَ الدوّام المَدرسيّ يَتَشكّل الرضى كغيماتِ أُنسٍ تَهطِلُ دوماً بابتِسامَةٍ ساحِرَة، ودعواتِ حُب، وحُضنٍ لا مَفَرّ منه كأنّه آخِرُ العَهد، يُصدّقه قُبَلٌ تَترى، فَتَرى فيها قَلباً يُمسِكُ قَلبَهَ!


هُناك حَيثُ الكِتابُ الذي لا يَنسى أحرُف أوراقِه، يَطيرُ بِكَ فَوقَ الحُدود وحَواجِز الاحتِلال، إلى ورقَة الزيتونَة التي لَم تَزَل خَضراء، يُسافِرُ بِكَ مِن وطنِ الجَسدِ إلى وطنِ الروح بِذاكِرَةٍ عَصيّةٍ عَلى التّهجيرِ والنّكبات والنّكسات فلا تَفتَأ تَسرُدُ أحداثَها، كَنهرٍ يَتحمّلُ ألم الصخور ليَرى جَمالَ الربيعِ عَلى جانبيه.. تَصفِ فيهِ المَسجِدِ الأقصى كأنّه يُعرَضُ أمامَ عينيها فَنُصدّقها صِدقَ الصدّيقِ لرسولِ الله -صلى اللهُ عليهِ وسَلّم- في الوَصف.

هُناك حيثُ تَرى تَفسيرَ قَولِ الله: "لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا"، فَتَلحَظ روحَ الشَبابِ في جَسَدٍ لا يَقوى عَلى الوقوفِ بِذاتِه، ليختَلِط عَلى المُشاهِد الفَرقَ بينَ رُكوعِه وسُجودِه، لكِنّ القَلبَ يَنتَصِبُ خاشِعاً لتُتلى آياتُ اللهِ الثابِتَةُ في الحِفظِ ثباتَ الحُبّ في القَلب، نَفسُ الآياتِ المُكررَة في كُل صَلاة وما زالَت كُل تِلاوَةٍ فيها كأنّها المَرةُ الأولى في الفَهم، والعِظةُ المُستقاة في الوقوفِ عَلى معانيها، والتَلذُذ بالإخلاصِ في آياتِها.

ثُمّ ينحني القَلبُ راكِعاً حتى تَستَقيمَ نبضاتُه، فَيرفَع مِن الركوعِ إلى السُجود في مسارٍ لا يَقوى هذا الجَسَد المُنهَك على الوُصولِ إلى سماواتِه، وتَبقَى تَمتماتُ الدّعاء بابَ الجَنّة المَفتوحِ في نُسِكها، تَفصِلُ الدّعوات بالأسماء، لا تَكادُ تَنسى حبيباً إلا وتَدعو لَه، حَتى تُسلّم فَتخرُجَ مِن الصَلاةِ إلى رُكنِ الالتجاء بالدُعاء، فيمضِي بِها الوَقتُ حتى يَلتقي عَقرب الدقائق في ذاتِ مَكانِ البَدء أو يُقارِب لتُنزِلَ يديها!

هُناك المَكانُ عابِقٌ بالذِكريات، الجُدران التي سَمعِت كُل الحَكايا تَشَقّقت، والتّلفازُ الذي كانَ يُسلّيها أعلَنَ الحِداد، لكُل قِطعَةٍ في أرجاء البيت ريحٌ مِن المِسكِ المُعتّق، سِبحَة بِتِسعَةٍ وتِسعينَ حَبّة بينَ الأصابِعِ مُدرجَة بالتَسبيحِ لا تَقوى عليها إلا بالحَمدِ، وحينَاً تراها كإسوارَةِ عَروسٍ ضَمت مِعصَمها، في الرُكنِ مرآةٌ فَقدَت حاسّة الانعكاس، لإنّها كانَت عَلى مَدارِ ثَمانينَ سَنةٍ آدميّة بروحٍ ولسان، تُتابِعُ وجَدّتي مَعاً عَدّ الشامات والضَحكات، وتُثير حيناً غيرَتها مِن مِشطٍ يَتبادَلُ الأحضان وخُصيلات شَعرها، لحنّائِها الذي مَسّ رأسَها لونٌ كَسنابِل القَمحِ بَعد انعكاس موجَةِ الشمسِ الأولى، ومَن حُرمَ الوصول اسوَدّ مِن كَثرَةِ البُكاء.

هُناك حَيثُ الوصايا المُعتّقة مِن تَجارُب السّنين، واجتِماعُ تَناقُضاتِ الحَوادِث بينَ الحَداثَةِ والأصالَة، وتَناقُض الطُفولَة مَع جَفاف جلد اليَدين، وتَنافُر الحُروف في بَساتينِ الشَوق، إذ تَتورّد أشواكُ الوردِ وسط الأفراحِ كسَفر حبيبٍ إلى حَبيبِه، وامتِزاجِ النّقص بمُكمّلاتِه حينَ تَذكُرُ الموت: "كَفرحٍ لا بُدّ مِن وجعِه"؛ ويَكأنّ مَلائِكَة الله تُنادي إنّا عَلى شَوقِ اللقاء، ويقينٍ بحديثِ رسولِ الله أجراهُ الله بِمَتنٍ أميٍّ يَتَجلّى فيه الصِّدق كرِسالَة مُحمّديّة خالِدَة النّقاء.


سَلامَاً للجَدّاتِ اللاتي يصنَعنَ السَعادَة رُغمَ المَرض، ويَحمِلنَ في صُدورهِنّ الدَهشَة والرّغبَة في الحَياة، لا يَعرِفنَ مَعنى اليَأس الحُبُّ فِعلٌ لازِمٌ يَتعَدى المَحبوب إلى كُل ما يَتَصِلُ بِه، وكذلكَ روحُ الأمومَة المُتدفّق يَنتَقِلُ مِن الأبناءِ إلى الأبناء، انتِقالاً لا يُنقِصُ مِن حِصّة أحَد، وكَذا قَلبُ الجَدّاتِ الطاهِر يَسرُدُ الجَوابَ النَموذجي دائِماً في ردّهن عَلى أسبابِ دلال الأحفاد، إذ كانَت جدتي -رحمَها الله- تقول كَكُلّ الجَدّات: "ما أعَز مِن الوَلَد إلا وَلَد الوَلَد"، تَروي بِذلكَ حُبّ المُختارِ لحفيديهِ الحَسنَ والحُسين، فكأنّها كانَت تستَعيدُ بِنا حَياةَ البُنوّة الأولى، وتَستَحضِرُ مَشاعِرها التي لا تَنفَد، مُتجَددة في دائِرَةٍ مُغلَقَةٍ بدأت بِدلالِ الابن الذي كُبرُ حَتى صارَ أباً يَعرِفُ وصيّة الله في الوالدين، تعدّاها لأبنائه الذين فَهموا من بِرّ الآباء بِر آباءهم، فَتُعيدُه الجَدّاتُ بفيضِ الكَرم بالحُب والوُد والدّلال.


سَلامَاً للجَدّاتِ اللاتي يصنَعنَ السَعادَة رُغمَ المَرض، ويَحمِلنَ في صُدورهِنّ الدَهشَة والرّغبَة في الحَياة، لا يَعرِفنَ مَعنى اليَأس، ولا شَكلَ التَذمّر والشَكوى، الفَرح عندَهن غير مرتبط بالماديّات، يَعلِكنَ حُلوَ الكلام، يأسِرنَكَ بخوفِ المُحب عَلى شكلِ نظراتٍ مُتعلّقة بنهايات المَعاطِف، مُسدَلَة بَعدَ الوداع حتى تَخرُجَ مِن مَدّ البَصر! سَلاماً للجَدّات في أثوابِ الأمّهات المُطرّزة، سلامَاً لَهُنّ في الحَياةِ وبَعدَ المَوت، سَلاماً بِمقدارِ حُرقَةِ دَمعَة أب، وتَجَذّرُ شَجرَة التوت القَديمَة، وإخلاص شُجيراتِ الزيتون.


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات جعفر فوارس || شيء يعتقله عقلي

تدوينات ذات صلة