...عن مرضى حقيقيّين مرّوا كنسمةٍ تركت في الروح أثراً...لا زال يبتسم !


السّاعة السادسة مساء...في قسم الطوارىء يرنّ الهاتف : "ألو ، يتوجّب علينا التحرّك إلى المطار لنقل مريضة إلى مستشفانا تعاني من كسر في ... "

رمز المريضة : الجميلة


الاّن أجلس في سيارة الإسعاف في طريقي إلى المطار...

وصلنا...و شارفت رحلة المريضة على الوصول ولا يبتعد عن أفكاري طرفة عين سؤال واحد : كم من ألم تشعر به مريضتي الاّن ؟ ألم الكسر والغربة والسفر ...و أشدّهم ألم الأمل بالشّفاء...


الاّن "الجميلة" معي في سيارة الإسعاف..هنا تبدأ رحلتنا...


بعد أن أتممت الفحص الأولي و تواصلت مع الطبيب..كنت حريصة على تثبيت "الجميلة" قدر المستطاع لأن أقل حركة تسبّب لها الألم...أذكر جيّداً كم لعنتُ في قرارة نفسي الشوارع وإشارات المرور والازدحام وتمنّيتُ لو أن بساطاً سحريّاً ينقل"الجميلة" بكل خِفّة إلى المستشفى...صوت أنينها في أذناي لا يغيب...وصوتي لا يغيب وهو يحاول أن يطبطب على أنينها قائلاً:"يلّا هانت يا أمّي شوي وبنوصل...لا تخافي أنا معك..تنفّسي بعمق" ...


مسكَت يدي ونظرت إليّ قائلةً : "أنتِ جميلة...أنا بسمّيكِ الجميلة...لأنك جميلة" ثم عاد الألم لها بعدما ناولتني جرعة الجمال هذه...ومن ثم عادت لتكرّر ذلك...رددتُ متأمّلة في أن أزيد من الجمال جمالاً ولعلّ ألمها ينشغل عنها قليلاً : "أنت الجميلة ولأنّ روحك جميلة ترين الجمال في كل مكان، هانت يا أمي أذكري الله ..قولي يارب بتهون من سابع سما"...


كانت الشوارع مزدحمة ... كأنّ الطريق يحتاج إلى عمر جديد لينتهي ... قضيناه بين الألم تارةً...والأمل تارةً أخرى...والجمال بين الألمين كأنّه اليسر بين العسرين...


وصلنا المستشفى وخضعت "الجميلة" لعملية جراحية ولله الحمد نجحت عمليّتها ... وخرجت من المستشفى ...



مرّت شهور...


الساعة الثانية ظهراً...في قسم الطوارىء ... ذهبتُ للتعامل مع مريضة في السرير رقم 3 ... كان يرافقها ابنها وأثناء إعطائي لها العلاج همسَت في أذن ابنها شيئاً...

خرجت من عند المريضة ليلحق بي ابنها ... لو سمحتِ ، تفضّل أخي ، ردّ قائلاً : " أمّي همست في أذني قائلةً " هذه الجميلة أنا عرفتها ولكنّها لم تعرفني"...ركضت للداخل مرة أخرى لأُلقي سلامي عليها وأعانقها وهي تنظر إليّ بحزن قائلة : " أنا عرفتك ولكنّك لم تعرفيني يا جميلة" ...


لا أذكر يوماً أنّي نسيت مريض مرّ عليّ...لكنّ "جميلة" كانت متعبة و منهكة ومريضة جداً...حتّى أن ملامح وجهها تغيّرت من شدة المرض...لا أبالغ تغيّرت ملامح وجهها لم أعرفها...

رددتُ : " أنا اّسفة يا جميلة حقّك عليّ يا أمّي..."


مرّت الأيام وجميلة لم تغادر المستشفى... أزورها كلّما سنحت لي الفرصة وكلّما أنهيتُ ورديّتي وقبل أن أرتشف قهوتي...


خرجت جميلة الروح من المستشفى وهاي تتماثل للشفاء...


أسبوع من الاّن ... مريضة في السرير واحد...لحظة،هذه "الجميلة"... لا تبكِ يا أمّي أنا هنا ... أنا معك إلى أن تجفّ دموعك وتعودي لتزرعي الجمال من جديد ... أُدخلت "الجميلة" للمبيت في المستشفى... يوم أجمل من الاّخر لأن صحتها تعود للجمال من جديد ... إلى أن خرجت من المستشفى


اّخر لقاء...


الساعة السابعة صباحاً في المنزل ... اليوم إجازة

سرعان ما جاء الغد...

الساعة العاشرة صباحاً...سائق سيارة الإسعاف جاء مسرعاً: "سجى جاءت لزيارتك البارحة المريضة "الجميلة" وكنت في إجازة وطلبت أن أنقل لكِ السلام ... حسن، قل لي ما رقم غرفتها سأذهب لزيارتها الاّن...ردّ قائلاً: لقد خرجت من المستشفى...فإنها تتكرر للمستشفى في بعض الأيام لمراجعة الطبيب فقط ، فقد بدأت بالتّعافي...


يومان من الاّن...موعد إجازتي...

في اليوم التالي وفي الساعة العاشرة يعيد السيناريو نفسه...لم يتسنّ لي أن أرى "الجميلة"...وهكذا استمر الحال لأيام عديدة...كأنّ القدر يحول بيني و بين جمال وداعها...


بداية الأسبوع...الساعة السابعة صباحاً ... ركضتُ مبكّرةً لأسأل زميلي عن مكان "الجميلة" لعلّ اليومَ يومُ مراجعتها للطبيب... ردّ قائلاً : "الجميلة" سافرت إلى بلادها فقد انتهت رحلة علاجها هنا

وقبل ذهابها زارت الطوارىء لتسأل عنكِ ولم تجدكِ و أوصتني أن أنقل لك هذه الرسالة : "قل سلاماً للجميلة ، قل لها أنّي بحثتُ عنها وكنت أودّ لو أراها قبل السّفر" ...


لم أرَ "الجميلة" بعد ذلك...لكنّي احتفظتُ بسلامها...بجزء من جمالها بين جدران الطوارىء...


جميل الروح يرى كل الأرواح جميلة ... كانت روح "جميلة" أجمل الأرواح... من يرى سيّدة ليس لجمالها مثيل، فليوصل لها رسالتي : "سلامٌ لروحك وعلى روحك الجميلة السلام"
  • أحداث سلسلة "بين جدران الطوارىء" حقيقيّة حدثت معي في قسم الطوارىء أنقل أثرها وذكراها الطيبة لكم
  • لم ولن يتمّ ذكر أي معلومات عن المرضى بشكل خاص من :اسم أو عمر أو جنسية أو تاريخ مرضي ...إلخ ، خصوصيّتهم أمانة عاهدت الله على حفظها
  • الرموز في بداية التدوينة ترتبط بما تركه المريض من أثرٍ فقط وليس لها أي علاقة باسمه الحقيقي أو ملامحه أو أيّ من صفاته الشخصيّة...


سجى داود

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

شكراً وحباً ندى الغالية ... وفقك الله 🤍

إقرأ المزيد من تدوينات سجى داود

تدوينات ذات صلة