بعد أن كان الشعر العربي مسيطرًا على اللغة العربية والتذوق الأدبي والإبداع أصبحت الكتابة النثرية الفنيةفي المركز الأول مع تقدم المجالات المختلفة.
ما أشرف لُغَتُنا العربية! لغة أهل الجنة، لغة القرآن والشريعة والدين الحنيف، لغة البيان والجمال، لغة الإحساس والتعبير، لغة الفصاحة والبلاغة. لُغتنا العربية التي شرفها الله بالقرآن الكريم لغة قوية صامدة عبر القرون والأزمان، لم تتخل عن خصائص نطقها، ولا عن رسوم حروفها، ولا عن رونق جمالها، ولا عن قدرتها على التعبير عن مستجدات العصور، ودقائق الأمور، بل دائما تحمل الدر في أحشائها.
وكما تحمل كل لغة مهارات أربع في مطوياتها، من استماع، وتحدث، وقراءة، وكتابة كذلك كانت لغتنا الذكية. فما أجمل هذه المهارات، وأنفعها، وتعلقها بالقلب قبل الذهن عندما تدرسها بشغف صادق وكأن اللغة رحيق الأزهار المغذي للذوق والروح والحس اللغوي.
وأتعرض هنا لأحد درر تراثنا العربي والإسلامي والمصري، وهى مقامة رائعة بعنوان"الكَوَاكِبُ الدُّرِّيَّةُ فِي المَنَاقِبِ البَدرِيَّة" لأبي العباس بن أحمد بن عبد الله بن أحمد القلقشندي، كتبها في عام ٧٩٦ هجريًا. تحدث فيها عن كتابة الإنشاء، وصناعة النثر الفني، والتي ألحقها بكتاب "صبح الأعشى في كتابة الإنشا" شرحًا للحلقة الثانية منها والتي هى زادٌ لكل كاتبٍ للنثر الفني. وقد صادف هذا كله هوى نفسي التي تحب الكتابة، وتعبر عما تريد بنثر فني - فصيح قدر المستطاع- متذوقة الشعر، مميلة بقلمها إلى النثر وما أحبه إلى نفسي.
هذا الكتاب العظيم "صبح الأعشى" الذي أرخ فيه كاتبه للكتابة الفنية منذ نشأتها الأولى في عصر صدر الإسلام إلى القرن الثامن زمن وفاته، مع هذه المقامة البليغة لم يكونا مجرد نصين تراثيين تستمتع بقراءتهما، وتتذوق جمالهما فقط، بل تقف على منافعَ جمة، ومبانٍ غصة، وعلومٍ مفيدة، ولغةٍ شريفة؛ فتبدأ بالوقوف على الأدوات التي تساعد الكاتب على النبوغ في العلم، من تنزيه الإشتغال عن إشراك التعطيل، والاستمرار على الوحدة وملازمة الانفراد، واغتنام الصحة قبل تجافيها، ومران النفس على الاشتغال كي لا تمل فتنفر عن الطلب -طلب العلم- وتجمح، وانتقاء من الكتب أمتعها تصنيفًا، وأتمها تحريرًا، وأحسنها تأليفًا، وانتخاب أشياخ الإفادة أوسعهم علمًا، وأكثرهم تحقيقًا، وغير ذلك من الأمور التي ذكرها القلقشندي في مقامته.
وكم للكتابة من فضل عظيم، إنها لمن أعظم الصنائع قدرًا، وأرفعها ذكرًا، نطق القرآن بفضلها، وجاءت السنة الغراء بتقديم أهلها، ألم يخبر الله تعالى في قرآنه أنه علم بالقلم؟ حيث وصف نفسه بالكرم إشارة إلى أن تعليمها من جزيل نعمه، ألم يقسم الله بالقلم وما سطرته الأقلام؟ فكان من أعظم الأقسام، وجعل الكتابة من وصف الكرام. هذا وقد كان النبي - صلوات ربي وسلامه عليه- في كثرة الكُتاب راغبًا، واتخذ عددًا من الكتبة إلى جواره؛ فكم للكتابة من شرفٍ عظيم.
على أن الجزء الأكبر نفعًا، والأجل زادًا هو الحلقة التي يتحدث فيها القلقشندي في مقامته عن علوم الكتابة التي لا يستغنى عنها من أراد أن يكون كاتبًا، فاعلم أن كاتب الإنشاء لا تظهر فصاحته، وتبين بلاغته، وتقوى يراعته، وتجل براعته إلا بعد تحصيل جملة من العلوم. بدأها بحفظ كتاب الله عز وجل، وما اشتمل عليه كلام النبوة من الألفاظ البديعة، والتوغل في أشعار العرب، والمولدين، وأهل الصناعة المحدثين نثرًا ونظمًا، والاطلاع على خطب البلغاء، والعلم بأيام العرب، مع سعة الباع في اللغة، ونحوها، وصرفها، وعلومها من المعاني والبيان والبديع، وقبل كل ذلك لابد من إتقان علم الخط، والإملاء. ثم تحدث عن العلوم المكملة والتي تحتاج ثقافة واسعة من كاتب الإنشاء، وصانع النثر.
فمن الإبداعات الّتي جمّل بها الإنسان هذا العالم، فنّ الكتابة؛ فالكتابة هي صياغة الكلمة، ولا تصبح إبداعاً إلّا إذا انطبعت بروح الكاتب، وثقافته ، وعلمه، واتجاهاته؛ فتلمس قلب القارئ وتنير عقله كما أنار القلقشندي عقولنا، وصقل ذوقنا اللغوي. وتمسي القطعة الأدبيّة هي المبدع لأنّها تعبّر عن أفكاره وهواجسه ومشاعره وأحلامه. كما تصبح هويّته الأساسيّة تعرّف عنه وتعكس صورته. فالكتابة الفنية أصبحت تزاحم الشعر في مكانته، أصبحت فن العربية الأول بمرور العصور، وعلى الرغم من ذلك هى ليست بالأمر السهل حتى وإن رزقك الله الموهبة لابد أن تشكره بصقل هذه الموهبة بالقراءة، والوقوف على فنون الكتابة، ومصطلحاتها، ورسومها.
ومن كلمات القلقشندي التي مثلت واسطة العقد قوله "وأن الكتابة هي الحرفة التي لا يليق بطالب العلم سواها، ولا يجوز له العدول عنها إلى ما عداها ". فكما مَن الله عليك بتحصيل العلم ينبغي أن تعطي زكاته ألا وهي الدراسة، والقراءة المستمرة، ونقل العلم إلى الناس وهذا يكون بالكتابة، وبأسلوبك الفريد في نقل ما تريد، بل وكيفية إقناع القراء به، ونفعهم حق المنفعة. هذا وكما اختتم القلقشندي فقراته وموضوعاته بقوله فضلًا من الله ونعمه، ها أنا ذا أقول الحمد لله الذي أعز أمتنا بالفصاحة والبيان والعلم والكتابة، ولولا قرآنه العظيم ما كانت عربية. فضلًا من الله ونعمه.
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات
"وأن الكتابة هي الحرفة التي لا يليق بطالب العلم سواها، ولا يجوز له العدول عنها إلى ما عداها ".
بالمزيد من الابداع