"إنه القدر الذي يثبت لنا في اللحظة المناسبة أنه هناك يري ويسمع ويدبر ليقدمنا للآخرين بصورة أفضل كثيرًا مما كنا نحلم به"


في صباح باكر أواخر شهر أكتوبر ١٩٩٢، في يوم خريفي مزين بشمس ربيعية ونسيم صيف عليل، ركبت دراجتي متوجها إلى المعمل في الجامعة وسط المدينة. وبعد أكثر من أربعين دقيقة وصلت إلى المجمع الطبي الذي به المعمل. كانت رأسي طوال الطريق تفكر في اجتماع هذا الصباح حاملا فوق كتفي حمل ثقيل من عدم الاستفادة أو الإفادة العلمية أو حتى الاندماج مع الباحثين هناك.


شيء آخر كان لا يفارق تفكيري وهو كيف لي بدراستي التقليدية للعلوم الأساسية في بيولوجيا الفئران أن تساعدني في مرحلتي العلمية الجديدة في الدكتوراه هنا في اليابان في مجال المناعة. كنت أشعر بالدوران وأن أدفع بدال الدراجة في طريقي للمعمل، كنت أشعر مع كل دفعة أن قراري بتغيير مجال دراستي البحثية من التشريح والهستولوجي في الماجستير إلى دراسة علم المناعة كان قرارًا خاطئا سأدفع ثمنه غاليا. كنت أتحسر على السنوات التي قضيتها في أبحاثي في الماجستير فلن أستفيد منها فالقادم كله مختلف عما كان.


وصلت قبل ميعاد الاجتماع بدقائق. أخذت مقعدي وسط الجميع بجانب الشاب الذي كان معي معظم الأيام الأولي من وصولي بتوجيه من مساعد أستاذي. جلست ونبضات قلبي ما زالت تضرب صدري حتى خفت أن تتصدع جدران غرفة الاجتماع جرّاء زلزال نبضاتي التي ثارت وهاجت من التوتر. كان ذلك هو ثاني اجتماع لي بعد أن حضرت أول اجتماع علمي للقسم بعد وصولي للجامعة بأيام قليلة ولم يسعني الوقت في هذه الأيام القليلة أن أكون على دراية بتاريخ وجغرافيا وعادات وثقافة وأسلوب التعامل في المعمل أو القسم أو المدينة خاصة أن معظم من حولي لا يتحدثون الإنجليزية.


قسم المناعة، وهو ضمن الأربعة أقسام العلمية للمعهد، يقع في الدور الثالث بمعهد التنظيم البيولوجي الطبي التابع لكلية الطب بجامعة كيوشو باليابان. القسم خلية نحل بحثية يعج بخمس مجموعات بحثية تختص كل مجموعة بتخصص معين، ولكن تدور معظم الأبحاث فيها عن فهم أسرار المناعة، ودور الخلايا المناعية في الصحة والمرض، شاملة الأمراض التي تسببها البكتيريا والفيروسات، بالإضافة إلى أمراض المناعة الذاتية والشيخوخة. ويستخدم الباحثون عينات بيولوجية بشرية أو من الفئران التي يجرون عليها التجارب كنماذج للأمراض المختلفة. هذا ما علمته من أول لقاء مع أستاذي الكبير عندما اعطاني دقائق ليرحب بي ويتعرف عليً في أول يوم لي في المعمل بعد وصولي اليابان بثلاثة أيام.


كان هذا هو الاجتماع الشهري الذي يضم المجموعات البحثية الخمسة بالقسم بكل تخصصاتهم في المناعة، أما الاجتماعات الأخرى فهي أسبوعية ومحصورة فقط علي الباحثين بكل مجموعة بحثية والأستاذ المساعد في هذا التخصص. جلست استمع بإنصات لعلي أفهم شيئا مما يُقال باللغة اليابانية التي لم أكن أعرف منها سوي بعض الكلمات القليلة مثل صباح الخير (أوهايو جوزايميس) ومساء الخير (كونيتشوا وقت الضُحي والعصر) أو (كونبانوا في المساء) ومع السلامة (سايانورا) وشكرا (أريجاتو).


بقيت مُنصتًا استمتع لما يُقال وأشاهد عرض النتائج التي يعرضها الباحثون واحدًا تلو الآخر حتى جاء دور الباحث الأخير والذي عرض نتائجه ثم توقف عند نتيجة محددة ليتمتم ببعض الكلمات ثم توقف. لم أفهم شيئا مما يُقال باللغة اليابانية اللهم بعض المصطلحات باللغة الإنجليزية والتي كنت أحاول بصعوبة بالغة أن أربط معناها بما أراه من نتائج. علق بعض الباحثين بمداخلات علمية، ولكني لاحظت أن استاذي يردد من فترة لأخري كلمة يابانية (موزوكاشي نييه) ولكن بنبرة توحي بأن هناك شيئًا ما يحدث، ولكنه غير مفهوم لي.


وهنا سألت زميلي الياباني بجواري والذي كانت لغته الإنجليزية معقولة مثل لغتي آنذاك "ما معني هذه الكلمة ولماذا يرددها أستاذي بملامح فيها عدم رضا ويرددها معظم الباحثين مثله. ابتسم زميلي وصحح لي نطقها ثم أخبرني أن معناها It seems too difficult. سألته وما هذا الذي يبدو صعبا لأستاذي وللجميع. قال هناك نتيجة غير مفهومة وهي ليست متعلقة بالمناعة ولكن بتشريح الفأر والتركيب النسيجي للمعدة لأن النتائج المعروضة للمناقشة لسرطان المعدة ويبدوا أن هناك تركيب نسيجي في الفار غريب عما درسناه في الطب في معدة الإنسان. وهنا وجدت نفسي أهمس له بخجل "أعتقد أني أستطيع تقديم تفسير لو تم عرض النتائج باللغة الإنجليزية". ابتسم زميلي بما يوحي بالموافقة ثم انتظر بعض الدقائق لكي يجد اللحظة المناسبة قبل أن يهمس لأستاذي بأدب شديد بما أريد.


كنت أظن أني في هذه النوعية من الاجتماعات العلمية مستمع فقط فكيف لي أن أتحدث وأنا طفل صغير يحبو في طرقات المناعة، وكيف لي أن أتحدث وأنا لا أفهم معظم المعلومات ولا اللغة التي يتحدثون بها. وفجأة جاء صوت أستاذي الجهور بنبرته المتفائلة والمشجعة دائما "هل لديك من تفسير لهذه الظاهرة د. سالم؟" وبحياء شديد طلبت منه عرض النتيجة المقصودة مرة أخري، ولكن باللغة الإنجليزية. وعلي الفور طلب أستاذي من الباحث، وكان طبيبًا يدرس الدكتوراه، ليعيد العرض مرة أخري، ولكن باللغة الإنجليزية. تلعثم الباحث قليلًا ثم ما كان منه إلا أن أعاد العرض باللغة الإنجليزية والتي فوجئت بأنها أفضل من لُغتي بكثير، فتعجبت في نفسي وتمنيت أن تكون لغة الاجتماعات العلمية في القسم باللغة الإنجليزية خاصة أن هناك طلاب أجانب غيري من دول شرق آسيا وطالب واحد من أمريكا، ولكنه كان يتقن اللغة اليابانية.


استمتعت للعرض وكان كما توقعت ودرست في الماجستير بعمق وهو التركيب الدقيق لنسيج المعدة في فئران التجارب. وكما توقعت كانت الملاحظة خاصة بجزء محدد من تركيب نسيج معدة الفأر. وعلي الفور تذكرت أثناء العرض ما كنت قد لا حظته وأنا طالب ماجستير في مصر وهو أن الجزء الأول من نسيج المعدة مشابه تماما في تركيبه لنسيج المريء والجزء الآخر يتكون من النسيج المعروف لمعدة الحيوانات الفقارية ومعدة الإنسان.


وبعد أن انتهي الباحث من عرضه توجه إليّ أستاذي الياباني، الذي كنت قد أحببته من أول لقاء لبشاشة وجههُ وحديثه رغم جديته الصارمة "هل لديك تفسير د. سالم لما رأيت من تركيب مختلف في معدة هذا الفأر المغلوب على أمره؟". وفي ثقة كبيرة أُحسد عليها شرحت له أن السبب وراء هذا التركيب المتميز أن الفأر يستخدم الجزء الأول من المعدة في تخزين بعض الطعام خاصة العشبي قبل هضمه ولذلك فالمعدة تحتفظ بتركيب مشابه لتركيب المريء حتى تتحمل وجود غذاء غير مكتمل الهضم فلا تصاب بأذى لأن تركيب جدار المريء أقوي في بنيانه من تركيب جدار المعدة. أما الجزء الثاني من المعدة فيبدو طبيعيا مثل أي معدة متطورة ليقوم بوظيفة الهضم وخاصة البروتينات كما هو ثابت ومعروف.


ابتسم أستاذي مندهشًا، ولكن كيف عرفت هذه المعلومة المتخصصة جدًا د. سالم وهي بعيدة كل البعد عن دراسة علم المناعة. رددت بثقة وسعادة احتفظت بها بداخلي ولم أشأ أن أبديها وإن كنت أظن أنها بدت في تعبيراتي العلمية، درست ذلك في الماجستير فقد كانت أبحاثي عن وصف تفصيلي لعظام وأنسجة فأر التجارب من الفم إلى المستقيم وكانت قد قابلتني هذه الملحوظة وأنا أوصف قطاعات معدة الفأر فوجدت أن الجزء الأول من المعدة فيها يشبه تماما تركيب أنسجة المريء. وعندما بحثت في المراجع وجدت أن ذلك مثبت علميًا كتركيب معروف لمعدة الفئران نتيجة لطبيعة الغذاء ووظيفة هذا الجزء الأول من المعدة الذي يخزن الطعام المهضوم جزئيا من المريء قبل استكمال هضمه في المعدة الحقيقية.


انفرجت أسارير وجه أستاذي الذي فرج بالإجابة التي أنقذت الباحث والبحث وأضافت شيئا جديدًا لهم من باحث مصري صغير لم يبدأ رحلته العلمية في المناعة في القسم هناك بعد. سعدت بشعور استاذي جدًا والذي سمعته يردد كلمة "نارهودو ديسنيه" والتي عرفت بعد ذلك أن معناها رائع جدا وهائل. ولكن أكثر ما أسعدني هو فرحة أستاذي بي وفرحتي بنفسي لأني استطعت أن أُظهر في الوقت المناسب جدًا استفادتي من دراستي في الماجستير في مصر والتي كنت أظنها بلا فائدة كبيرة لأنها تنتمي لدراسات العلوم الأساسية غير التطبيقية.


في هذه اللحظة الفريدة آمنت بمقولة أستاذي الحبيب "د. جمال مدكور رحمة الله علية" الذي كان يُشرف عليّ في الماجستير حينما كان يقول لي من وقت لآخر عندما كان يري نظرات عدم الرضا الكامل عما أقوم به من أبحاث وقتها “لا تقلل يا محمد من أي دراسة تقوم بها، ولا تنسي أن العلوم الأساسية التي تظنها تقليدية هي أساس الاكتشافات والتطبيقات الكبرى". وبالفعل أثبت لي هذا الموقف أهمية ما درسته في مصر في تفسير تأثير مادة مسرطنة على جزء من المعدة وليس كلها.


وفجأة وجدت أستاذي يقف فجأة ليقول بلغته الإنجليزية الواضحة "لتكن كل الاجتماعات القادمة بدون استثناء باللغة الإنجليزية ولا مانع أن تكون ممزوجة ببعض الكلمات اليابانية ولتكن الاجتماعات فرصة لممارسة اللغة الإنجليزية وللاستفادة من الجميع" ثم نظر الي قائلا "وعليك د. سالم أن تأتينا أنت والباحث بالمراجع العلمية التي توضح وتوصف هذه الظاهرة". وقف الجميع احتراما للأستاذ ورددوا "هاي سو ديس" أي حاضر وينفذ.


انفض الاجتماع الذي شعرت بعد مداخلتي العلمية هذه والغير متوقعة بالمرة أن القدر نسج هذه اللحظة الفريدة وساقها إلى لكي يقدمني بصورة طيبة لأستاذي ومساعديه ولجميع الباحثين في الوقت المناسب قبل أن أبدأ رحلتي العلمية معهم بثقة وتقدير علمي كبير رغم حداثتي المطلقة وقتها في دروب علم المناعة.


إنه القدر الذي يثبت لنا في اللحظة المناسبة التي لم نكن أبدًا لنتوقعها أنه هناك يري ويسمع ويدبر ليقدمنا للآخرين بصورة أفضل كثيرًا مما كنا نحلم به.


وكم جميلة هي اللحظات الفريدة، حتى لو كان بطلها معدة فأر في تجربة بحثية.


مع خالص تحياتي

د. محمد لبيب سالم

أستاذ علم المناعة كلية العلوم جامعة طنطا


Lee ER et al., Division of the mouse gastric mucosa into zymogenic and mucous regions onthe basis of gland features. Am J Anat. 1982 Jul;164(3):187-207. doi: 10.1002/aja.1001640302.


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

https://www.youtube.com/watch?v=vnHLE_Jb1tg

إقرأ المزيد من تدوينات د. محمد لبيب سالم أستاذ جامعي واديب

تدوينات ذات صلة