العلم رأس الحكمة، والحكمة رأس الفضيلة، والفضيلة شرف المرء!


مـــا أجـــمـــلَ الـــعـــلـــم

العلم مع التواضع مجهدة، والعلم مع التكبر مفسدة

وقفت في واحة كثيفة الأشجار، ضوء القمر جعل مني ظلا خفيفا انعكس على الأرض، مشيت خطوات مترددة فإذا بظلي يتحرك أمامي، صوت زئير أسد ما بجانب الواحة رن في المكان، خفت للحظات واطمئنت نفسي إذ توقف زئير الأسد، كانت الظلمة تشتد سوادا كاحلا، تمتمت ببعض كلمات مهموسة، ثم صحت فجأة، فإذا بالأسد يرد علي بزئيره، حاولت الجلوس إلى جانب شجرة صغيرة، كان ضوء القمر صديقي الذي احتميت فيه، اطضجعت قليلا على هذه الشجرة، فإذا بورقة من أوراقها تسقط علي، أخذتها من على ملابسي وتحسستها فإذا ببعض تعرقات خفيفة تعوق نعومتها، مازال الأسد يزئر زئيرا مدويا، حاولت أن أقطع حدة جوعي بأكل هذه الورقة المتعرق ملمسها، كانت بعض قطرات من الماء الذي تكثف على أوراق الشجر لرطوبته قد سقطت على شعري، تحسست هذه القطرة حتى أبتلت أنامل يدي، شعرت بالسكينة والاطمئنان، ملت بهدوء إلى جذع الشجرة، كانت الورقة التي أكلتها مرة بشدة، لكنني استطعمتها ثم ابتلعتها ببطء شعرت به مريرا، بدء القمر يختفي ببطء خلف الشمس التي بدأت تشرق، بدأ النور يشع في المكان، هدأ الأسد ولم يعد يزئر، ثم قمت من على الأرض، كان جسمي قد ترك أثرا على الأرض الرطبة، قمت ثم تمطعت لثوان، كان نور الشمس قد ازداد شدة، ونورها عم في المكان، أدركت أن مرارة ورقة الشجرة التي اختفت من فمي هي مرارة لحظية، شعرت بمرارتها للحظات ثم استطعمتها واستحليتها، وكانت القطرات قد توقفت عن السقوط، أما ورقة الشجرة فكانت العلم، مرارته قاتلة في البداية وفي نهايته حلاوة مستدامة، وأما القطرة فكانت المعرفة تطيب الإنسان معرفة، وتزيده فهما، وأما الواحة فهي الدنيا قد أشرقت نورها إذ أنا استطعمت مرارة العلم ثم تعودت عليها، وارتشفت حلاوة المعرفة، حتى أتى الصباح ببهجته متفلبا على سواد الليل حيث الجهل، وقاضيا على زئير الأسد حيث التخلف، مرت دقائق حتى استيقظت من نومي، فكرت في هذا الحلم العجيب الذي يعد من الوهلة الأولى غريبا ولكنه منطقيا بعض الشيء، فكرت كثيرا، فكرت بتمعن، فكرت بصمت رهيب ومخيف، ضيقت حدقتي عيني متمعنا، وضعت سبابتي اليسرى على شفتي السفلى، عصفت ذهني عصفا مريرا لأتخيل مدى غرابة الحلم الذي حلمت به منذ لحظات إذا أنا نائم، تخيلت وفكرت حتى أدركت وتأكدت أن العلم والمعرفة في بدايتهما مرارة، وفي أوسطهما تعود، وفي نهايتهما حلاوة، أما المرارة فهي لحظية زائلة، وأما التعود فهو إيجابي مثمر، وأما الحلاوة فهي دائمة خالدة، فذق المرارة حتى تتعود فإذا تعودت ذقت الحلاوة، وهي دائمة، لأنه وببساطه... من لم يذقْ مرارة العلم فلن يذوق حلاوة النجاح.

"من السهل أن تصنع من العلم مالاً، لكنه من أشد الصعاب أن تصنع من المال علماً" -متولي حمزة-

لم يكن هذا الحلم الآدمي سوى نقطة مضيئة في عالم الأحلام ليتحول بعد ذلك لحقيقة خالدة، تلك الحقيقة التي زرعت في النفوس لتخلدها للأبد، ليدرك بها الآدميون أن العلم عبارة عن فضاء شاسع لا نهاية له، لكن من ينهل منه جزءا بسيطا يستشعر بأنه عالم لا مثيل له، لكنه في الأصل علم ضئيل يشعر صاحبه بالعالمية والمثالية ليستشعر في النهاية بأنه علم محدود، مهما أخذ منه ونهل لابد وأن يكون محدودا مهما زاد ومهما نهل! ليخلد بذلك حقيقة كون العلم محدود، ليثبت حقيقة الآية القرآنية الخالدة في قول الله سبحانه وتعالى "وما أوتيتم من العلم إلا قليلا"، فالعلم مهما زاد صاحبه من نهله واغترافه لابد وأن يكون قليلا محدودا بحدود المنطق والعقل، لذا فإن كونك طالبا للعلم طوال حياتك حتى بعد أن تنتهي من تعليمك يجعلك عالما، وذلك لأن الآدمي يكون عالما طالما ينهل من العلم، فالعالم عالم والجاهل جاهل في هذه النقطة، التي ينبثق منها هذا التصنيف الخالد للأبد، ولكن لكي يكون الآدمي عالما لابد أن ينفع الغير بما انتفع به من علم، فالعلم الذي لا يورث لصاحبه كرم العطاء العلمي للغير ليس بعلم، وليس بمعرفة، فإذا أردت أن تكون آدميا عالما بحق فعليك بتعليم الغير، فإن العالم إن لم يكن ذو معرفة واسعة نابعة من الفراغ المعرفي الذي يسد حدة جوعه من نهل العلم والاستزادة منه فلن يكون عالما، وحسبك من جهل معرفته شر، وأصله شر، ونهايته أشر! أما شر المعرفة فهو التكبر، فالعالم إن تكبر أصبح ذو جهل أصم، وأما شر الأصل فهو عدم التشارك بالعلم، وأما شر النهاية فهو الظلام، الظلام الذي يبهت من وضاءة صاحبه فلا يشتهر ولا يعرف بعلمه، وللمتكبر بعلمه صفتان، أما الأولى فهي العجرفة.. العجرفة بأنه يعلم، وهو في الحقيقة الصادمة لا يعلم ولا يتعلم، وإن تعلم تظاهر، والتظاهر هي الصفة الثانية.. التظاهر بالعلم الضئيل ليسد الفراغ الواسع والفجوة الكبيرة التي نشأت بينه وبين آدمي آخر ذو معرفة واسعة بماديات الأشياء وأسماءها.

"تعلم فليسَ المرءُ يولدُ عالماً ... وَلَيْسَ أخو عِلْمٍ كَمَنْ هُوَ جَاهِلُ" -الإمام الشافعي-

ذهبت لشيخي المفوه لعله يجد تفسيرا للحلم، جلست أمامه متربعا، وطأت رأسي أمامه، كتفت يداي على صدري، كنت مؤدبا، مؤدبا إلى حد بعيد كل البعد، قصصت عليه حلمي لعله يجد له تفسيرا، بكى بشدة ثم هب واقفا ليقول مظهرها تصوفه العتيق: "الله حي لا يموت"، ثم جلس ثانيا ليضع كفه اليمين على رأسي المطأطأة أمامه، يحدثني عن الحلم ليقول لي قولا خلده لسانه: "التواضع صديق العلم أينما التقيا ارتقيا بصاحبهما، وأينما تفرقا تحدثا عن صاحبهما، أما الرقي ففي الأخلاق، وأما التحدث ففي الصيت الحسن"، سكت للحظات ثم أكمل: "التكبر عدو العلم، أينما التقيا تنافرا، وأينما تفرقا تشاجرا، أما التنافر فتنافر ضد لا ند، والضد عدوان، والند صديقان، وأما التشاجر ففي النفس، فإذا تشاجرت المعرفة مع النفس أهلكتها"، أغمض عينيه ثم أردف: "العلم مع التواضع مجهدة، والعلم مع التكبر مفسدة"، سكت للحظات ثم أضاف: "العلم رأس الحكمة، والحكمة رأس الفضيلة، والفضيلة شرف المرء، وشرف المرء عنوانه، وعنوان المرء كرامته، وكرامة المرء رداءه، ورداء المرء سترته، وسترة المرء عفته، وعفة المرء أخلاقه، وأخلاق المرء أفعاله، وأفعال المرء حياته فإن حسنت أفعاله نجى وإن قبحت أفعاله هلك"، سكت للحظات أخرى حتى قطعت سكوته بسؤالي عن زئير الأسد، وورقة الشجرة، وقطرة الماء، والشمس والقمر، وأثري الذي ظهر على الأرض الرطبة، تلك العلامات والأشياء الرمزية التي شعرت ببعضها ورأيت البعض الآخر في حلمي ليجيني: "أما الزئير فهو الجهل يخيف صاحبه ولا يطيب له بالا، وأما ورقة الشجرة فهي العلم، من اعتاد عليه استطعمه، ومن استطعمه ألفه، ومن ألفه تعود عليه، ومن تعوده نجى، وأما قطرة الماء فهي المعرفة تروي ظمأ العقل وتطيب أثره كما تروي ظمأ العطشى، وأما الشمس والقمر فهما الدنيا والآخرة، أما الدنيا فهي القمر، تكون في ظله مثلما تكون في ظل الدنيا تنهل العلم وتغرف المعرفة، حتى لحظة ما تأتي الشمس كالآخرة لتكون ذو حظ وفير بها، وأما عن الأثر الذي ظهر على الأرض فهو أثرك الجميل الذي تركته في دنياك إذ تعلمت فعلمت، وتعرفت فعرفت، وتوصلت لاستنتاجات فوصلت لغيرك ما استنتجته، فكن يا بني ذا أثر"، أنهى كلامه بتعقيب أعجبني: "العلم والمعرفة كالطعام والشراب بدونهما تهلك، وبهما تسعد"، وقفت سعيدا للحظات، ثم ودعته فرحا، وأدركت أن للعلم مكانة لا يعلمها إلا من وصل إليها، وما أجملها من مكانة، إنها لتطيبه نفسا، وتسعده بالا، وتقره روحا، فما أسعده من حلم حلمته، وما أجمل العلم والمعرفة.

"وَمَنْ لَمْ يَذُقْ مُرَّ التَّعَلُّمِ سَاعَةً... تَجَرَّعَ ذُلَّ الْجَهْلِ طُولَ حَيَاتِهِ وَمَنْ فَاتَهُ التَّعْلِيمُ وَقْتَ شَبَابِهِ... فَكَبِّرْ عَلَيْهِ أَرْبَعًا لِوَفَاتِهِ" -الإمام الشافعي-

أدركت من كلام شيخي المفوه، ذلك العجوز النحيل الذي أقترب وجهه من أن يصل للأرض بسبب الانحناء والتقوص الذي أصاب عموده الفقري، أن العلم نور، نور في العقل ليزيده وضاءة، نور في الفكر ليزيده إشراقا، نور في الذهن ليزيده تحضرا ويقظة، أدركت أن العلم سلاح المتعلمين، سلاح قوي، يقتل الخرافات ويقضي على الجهل، سلاح ناصع البياض، يلمع بشدة، مسنون وحاد، يقضي على الأمية ويحارب الفقر ويصارع التخلف، أدركت من كلامه أن للعلم لذة لا يشعر بها إلا من جربها، لذة بشهوة، شهوة محللة، لا كذب فيها ولا غول، شهوة دائمة يستشعر بها العالم، تجذبه كمغناطيس قوي إلي المزيد من العلم، شهوة إيجابية تغلب على الهوى والرداءة، شهوة بنشوة تدفع العالم لنهل العلم واغتراف المزيد والمزيد من المعرفة، أدركت أن العلم لا يخسر صاحبه، أدركت أنه لا يوجد علم يخسر، فالعلم مكسب، مكسب جيد للمزيد من الاطلاع والمعرفة، فالمعرفة ليست المكسب الوحيد للعالم، إنما المعرفة هي المكسب والنشوة والنتيجة، أما المكسب فمكسب مادي ومعنوي، مادي كالمال، فالعلم يأتي لصاحبه بالمال من حيث لا يدري، ومعنوي كالروح، فالعلم يهذب المرء خلقا، وينقيه قلبا، ويصفيه ذهنا، وأما عن النشوة فهي نشوة دائمة وإيجابية تظل ملازمة لروح العالم الذي مازال طالبا للعلم، فالعالم يظل عالما لطالما أستمر في طلب العلم، فلا نهاية للعلم كما أنه لا نهاية للفضاء الشاسع الممتد إلى ما شاء الله، وأما النتيجة فدائما في صالح المرء، فالنتيجة الوحيدة التي تأخذ بيد صاحبها إلى المراتب العليا هي نتيجة العلم والمعرفة التي أكتسبت من نهل العلم واعتراف المعرفة، أدركت من كلمات تفسير حلمي الذي حلمته أن المرء بلا علم كالزرع بلا ماء، أما الزرع فيموت بلا نماء، وأما المرء فيصارعه الجهل والغباء، يصارعانه حتى يموت تدريجيا ببطء شديد كما سوف يموت الزرع إن لم يشبع بالماء، فكرت كثيرا في العلم حتى أدركت أنه بلا منازع أفضل استثمار تستثمره في حياتك، فإذا استثمرت مالك في جمع العلم والمعرفة من أي مصدر، وفي العلم والتعلم كنت خير مشروع فعلته بنفسك لنفسك، فعلى المرء أن يجمع العلم من أي مصدر حتى يواكب العصر، فيوم بلا تعلم كيوم بلا شمس يموت المرء جهلا كما تموت الأحياء قهرا، فلعلني أحب أن أكرر فرحتي وسعادتي بهذا الحلم الجميل الذي رأيته في منامي لعله كان سبب كبير في اقتناعي بأهمية العلم والمعرفة للمرء وللمجتمع، فما أجمل العلم، وما أفضل المعرفة، وما أسعد الدنيا بالتعلم، وما أقبحها بالجهل.


تعلَّمْ... عَلِّمْ... وكنْ ذا أثر!


--- --- --- --- --- --- ---

خـــالــــص تــحــيــاتـــــــي وتــقــديـــــــري🌹

تعلَّمْ... عَلِّمْ... وكنْ ذا أثر!71927731868106150




ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات متولي حمزة

تدوينات ذات صلة