لكنها"متلازمة ناقص الذات"الذي يأخذ كل سفينة غصبا،متلازمة العين الصدأة،يملك تسعا وتسعين نعجة،ولا ينفك يلاحق النعجة اليتيمة لغيره!وناقص الذات لم يكمل له عمل!
بينما أتكبد الكثير من الوقت والجهد في العمل الذي بالكاد يغطي مصاريفي الشخصية، وأغوص عمقا بالتفكير كيف يتدبر أمره من يجلس على كتفيه أم وأطفال وبيت وحكومة، وبينما أعاني حرمان أن ألتفت لنفسي ولمواهبي، وصحتي، تكلمني إحدى الصديقات المقتدرات وتلح في الاتصال أسبوعيا، تسرد السلام والسؤال عن الحال بتكلف، ثم تدخل مباشرة في طلبها المعهود، تبحث عن عمل، وفي كل مرة أتابع أخبارها، سفر للسياحة، ترتدي وزوجها أفخم الماركات، منزل وسيارة، دخل جيد جدا لزوجها، وهدايا جميلة لعيد ميلادها، وبسم الله ما شاء الله من قبل ومن بعد، أدامها الله من نعمة عليهم ورزقنا وإياهم، ثم وإذ بها تلهث في هاتفها تسألني عن طريقة التقديم لعمل حكومي براتب لا يتجاوز ال 200 دولار شهريا! فتراها تلاحق بعينها الصدأة رزقة بالكاد تغطي سعر حذاء زوجها لتنافس في دورها معدة أطفال لا تجد أمهم سوى شهادتها لتكسب رزقا كريما لنفس عفيفة يسد الظمأ وتقر به العين القنوعة، ما حملني إلحاحها لأسألها: ما الذي ستجنينه من هذه الوظيفة ما دمت في غنى عنها؟ فأجابت: "أتسلى" فأملأ وقتي وأثبت ذاتي! وحين كان صمتي أشد رجسا من الشيطان نفسه؛ أجبتها: يا للثمن البخس لذاتك إن كان ثمنها لا يتجاوز سعر حذاء "بعلك"! كان غضبها شديدا، لكن إغلاق سماعة الهاتف أنهى الموقف، وصداقتنا اللدودة معا!
يحمل أحدهم أفكارا ذهبية ليجعل من العمل شعلة أشبه بالأولومبية، لكن مديره الذي يلتصق بكرسيه منذ عقود عمل سنوية طويلة، فلا يبرح ولا يبلغ قسمه شيئا، ليقضي بعجزه على حلم الشاب المقبل المندفع الممتلئ بالجديد، بل وحتى أن المدير المتسلط لا ينقل أفكار الشاب للإدارة العامة، يطمسه ويقلل من شأنه، ويهدده إن برا نجمه وعلا صوته الجبلي وبرقت عيناه شغفا وإبداعا، راشقا إياه بالفشل، الخجل، عدم الكفاءة، وهاته العلل التي هو بريء منها كبراءة الذئب من دم اليوسفي! فينتهي به الحال موظفا عاديا لا يميزه شيء سوى نبرة الصوت المطفأة، وبريق اليأس، والسلبية الحادة.
أتعجب من تلك النماذج المنتشرة مؤخرا، وكأنهم فطر مسموم فيتكاثرون بمبدأ المال أولا، ولا أتحدث هنا عن حقنا المدني الإنساني بالسعي، لكنها الإنسانية المذبوحة، وانعدام الأصل، بل وقلة التربية على الاكتفاء بما يكفي.
عدم المنافسة في منحة مالية لمقعد دراسي لست بحاجتها فأنت متمكن من الدراسة بمالك ومال أبيك، عدم التقديم لوظيفة وتركها لمن يضطرها غير باغ، أن تلقي القمامة في الحاوية دون أن توسوس لك نفسك بالعبارات العفنة: وإن ألقيت قمامتي في الشارع هل سينتهي التلوث؟ هل سيأخذ الوظيفة محتاج؟ هل سيستفيد من المنحة طالب علم عاجز عن الدفع؟ هنا وعند التوقف عن أخذ السلوك الجمعي السائد ذريعة لاتباع القطيع، هنا وفقط ستنجو الطبقة الوسطى حتى وإن أوشكت على الاندثار.
أنا من أشد المعجبين بالمستبسلين المناضلين في كسب قوت يومهم، ولكنني أشد حبا وتقديرا لمن يعيش الإنسانية، لمن يطبق الإيثار عند الخصاصة في مجتمع تكاد تسحق فيه الطبقة المتوسطة أمام الأعين الفارغة، فنهاية الأمم مردّها أن الغني غني لأن الفقير فقير، وما أهلك الدواب إلا الطعام فوق الطعام! فترى البعض يلاحق طوق نجاة الغريق وهو يتشمس على يخته!
كلٌ خلق ليعمل، غنيا أو فقيرا، لكنني كلما نظرت لغني يمد عيناه إلى ما لم تسطع يد الفقير وصوله، أجزم أن الإنسان المنتج ليس منتجا بالمال فقط، بل أن تكرس الأم وقتها -التي لا ينقصها طعام في الثلاجة أو أثواب في الخزانة أو كتب على الرفوف أو أي من مصادر غذاء العقل والجسد - لتنتج جيلا سويّ الفكر، أعظم من أن تزاحم معدم الحال على وظيفة لا تسمن ولا تغني، وأن نضع عنا قطع الأرزاق وقطع السبيل لعابره بمقولة "أنا ابن فلان جئتك من فلان عن فلان" فلا ينال أحدنا طلبه إلا باستحقاق الشروط المطلوبة، كل هذا وكثير غيره طريقنا للتخلص من الفقر، ولكنها "متلازمة ناقص الذات" الذي يأخذ كل سفينة غصبا، متلازمة العين الصدأة، من يملك تسعا وتسعين نعجة، ولا ينفك يلاحق النعجة اليتيمة لغيره! وناقص الذات لم يكمل له عمل، والكامل الله في ذات وفي صفة!
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات
ملهمة فعلا❤
من اجمل ما قرأت حقا
رائعة جدا ابداع في الوصف عندما يعطى القلم لمن يستحق