بالرغم من أن العالم لم يتحرر كليًا من قبضة الجائحة وتبعاتها إلا أنها وخلال فترة قصيرة استطاعت أن تختصر أهم الدروس التي قد يستغرق فهمها وشرحها سنوات طويلة

بعد مرور عام ونيف على أزمة كورونا بدأ العالم يستجمع قواه شيئًا فشيئًا إثر هذه الكارثة الصادمة، واستطاعت العديد من القيادات الذكية أن تخرج بدروس ثمينة وأساليب ابتكارية أسهمت في تطور أعمالها بشكل غير مسبوق. لقد كانت الجائحة بمثابة معسكر تدريبي صارم ضم تحت سقفه قيادات العالم باختلاف مناهجهم وأساليبهم ودفع بعضهم لمستويات جديدة من التجربة والتعلم.

فمثلا في أوج تفشي الوباء، اختبرنا في مسك الخيرية تحديات زادت صعوبتها بغموض الظرف في حينها وعدم الاستقرار الذي عصف بمعظم المنشآت حول العالم. إلا أننا سارعنا بالاستجابة بالتكيف مع هذا الظرف الطارئ عن طريق وضع خطة مرحلية شملت الجانبين الداخلي والخارجي. ركز الجانب الأول من الخطة على تعزيز التواصل الفعال مع الموظفين والتعامل مع مخاوفهم وتأمين بيئة آمنة تحفزهم على الإنتاج. بينما ركز الجانب الآخر على ابتكار طرق لضمان استدامة برامجنا والوصول إلى مستفيدينا بتصميم وإطلاق برامج افتراضية جعلتنا على نفس مستوى القرب من الشباب في كافة أنحاء المملكة. وكانت حملة لا تقطع الإلكترونية أحد مخرجات تلك الخطة، والتي أتت إنطلاقًا من دور المؤسسة في دعم وتمكين الشباب لتحويل الأزمة إلى فرصة ومواكبة الجهود الحكومية للحد من انتشار فيروس كورونا. وشملت الحملة مجموعة متنوعة من البرامج المعرفية والمبادرات التي ساعدت على إحياء الأمل والإيجابية ومحاربة الإحباط المتفشي إثر الجائحة.


وبالرغم من أن العالم لم يتحرر كليًا من قبضة الجائحة وتبعاتها إلا أنها وخلال فترة قصيرة استطاعت أن تختصر أهم الدروس التي قد يستغرق فهمها وشرحها سنوات طويلة، من أهم هذه الدروس ما يلي:


الدرس الأول: النضج القيادي يسهل تخطي الأزمات

تظهر أهمية نضج القائد في الظروف غير المألوفة التي يعم فيها الارتباك، ونعني بالنضج هنا النضج الإداري والعاطفي فيما يتعلق بإدارة الأزمة بهدوء وحكمة والتعامل بذكاء مع احتياجات الموظفين. يؤثر نضج القائد بشكل كبير على سلوك العاملين وقد يكون هو المعيار الحقيقي لقياس فاعلية القرارات والمشاريع والنجاح في تخطي الأزمات. يتسم القائد الناضج قياديًا بتفكيره الاستباقي وبعد نظره، بالإضافة إلى صبره وفهمه العميق وفق قيمه الشخصية التي لا تتزعزع مهما اختلفت الظروف من حوله. دفعت الجائحة الكثير من القادة للتفكر في مدى نضجهم القيادي والوعي بأساليبهم التي لا تتماشى مع المتغيرات المفاجئة وأوجدت رغبة ملحة بتطوير هذا الجانب من خلال التدريب النفسي والإداري.


الدرس الثاني: مراجعة المسلمات تصنع قادة استباقيين

اضطر العديد من القادة إلى مراجعة مسلماتهم وقناعاتهم المتعلقة بكيفية إدارة المنشآت لعدم فعاليتها مع التحديات المحيطة بهم. استحقت الكثير من الثوابت المتجذرة التي وصلت لحد القدسية عند البعض إعصارا قويا يقتلعها ويرغم القادة على الاستغناء عنها، بالمقابل قدمت الجائحة مساحة بناء جديدة مع معطيات غير مألوفة لاستحداث طرق وأدوات تتناسب مع المرحلة وتغيراتها المتسارعة. وأدرك القادة والتنفيذيين حول العالم أهمية تغيير القناعات التي لا تصلح لهذا الوقت واستبدالها بأساليب قابلة للتكيف والتطبيق مما يكفل استدامة المنشأة وإنتاجيتها. كما أن الجائحة قدمت منظورا جديدا للقيادة بمهام جديدة ناقشتها باستفاضة في مقال ستة مهام جديدة للتنفيذين للقيادة في بيئة عاصفة.


الدرس الثالث: التواصل الفعال يعزز الإنتاجية والسلامة النفسية


زادت الحاجة لمهارات التواصل الفعال أكثر من أي وقت سبق في ظل المقيدات والتباعد الاجتماعي الذي فرضته الجائحة حتى أصبح التواصل المنفتح بين القادة وفرقهم ضرورة ملحة لنجاة المنشأة. زادت المسؤولية على القادة مع تفاقم معدلات الاضطراب وتأثيرها على إنتاجية الموظفين، وأدرك بعضهم أن طوق النجاة الأمثل هو توثيق العلاقات مع موظفيهم وتفهم احتياجاتهم.

استطاعت القيادات الواعية أن تفتح أبوابها للجوانب الإنسانية للعاملين والمتمثلة في مشاعر القلق والحزن والخسارة، والتعامل معها في مكان العمل كفرصة لإعادة بناء صحة المنشأة وتعزيز إنتاجيتها والمحافظة على المواهب. لقد قدمت الجائحة للقادة فرصة تاريخية لاستخدام أدوات تواصل مبتكرة لم يلجأوا لها من قبل، مما أتاح لهم التعامل مع الخوف والخوض في مناطق وموضوعات كان يحظر مناقشتها في مكان العمل مثل عدم الأمان ومشاعر العزلة وغيرها من المخاوف الشائكة التي لم يطرق بابها من قبل.


الدرس الرابع: التكيف السريع يضمن صمود المنشأة


قلب عام 2020 الكثير من موازين القوى في قطاع الأعمال، فإلى جانب ضخامة إيرادات المنشآت وتدفق أموالها أصبحت قوة الشركات تقاس بمدى سرعة تكيفها، فالبقاء لم يعد للأقوى ماليًا فقط بل للأكثر مرونة والأسرع تكيفًا. وجد القادة أنفسهم أمام اختبار حقيقي يقيس مدى مرونتهم في التعامل مع ظرف غامض يصعب التنبؤ بتحركاته، وسيناريو يصعب قراءته بأي شكل من الأشكال. كان التكيف الإداري والاستراتيجي هو مخرج القادة الوحيد والآمن من طريق الأزمة المظلم. لقد أتاح التكيف السريع والنظر للكارثة من أبعاد مختلفة الخروج بحلول إبداعية لإعادة تقييم الخطط المستقبلية وتكييف المنتجات بما يتناسب مع الواقع الجديد ومعرفة مواقع الخلل التي لم تكشف بعد. إن من أهم الأمور التي ساعدت العالم على التعافي النسبي والرجوع تدريجيًا للحياة الطبيعية هو تمتع بعض القادة بالقدرة العالية على التكيف وإدراكهم لضرورة التأقلم مع جميع الاحتمالات من النواحي المالية والإنتاجية.


الدرس الخامس: ابتكار نماذج الأعمال الجديدة يبني مستقبل مستدام


مع موجات التغيير المتسارع التي شهدتها الأسواق العام الماضي، كانت المواكبة بتغيير نماذج الأعمال وتعديلها هي أفضل وسيلة للاستدامة والازدهار. لقد خاطرت بعض المنشآت بالسقوط عندما آثرت الاستمرار على نفس النهج والأسلوب القديم في خضم عملية التحول المتسارعة، في حين أن منشآت أخرى تصرفت بذكاء وقررت بدون تردد تقديم نماذج أعمال مبتكرة، وتجربة أفكار غير مسبوقة، بل وحتى إنشاء شراكات جديدة لمواكبة تغيرات الأسواق من حولها مما ضمن لها الاستمرارية في عالم ما بعد الجائحة.

من أهم نماذج الأعمال الجديدة التي فرضتها الجائحة نموذج العمل عن بعد أو “العمل من المنزل”، كان هذا النموذج بمثابة تحدي كبير للمنشآت بمختلف أحجامها، استطاعت المنشآت السباقة تقبل هذا النموذج وتسخيره لصالح أهدافها المرحلية والمستقبلية من خلال أدوات واستراتيجيات مرنة وذكية زادت من إنتاجية موظفيها، أما المنشآت التي لم تتقبل هذا النموذج وأصرت على محاربته وعدم استغلاله لصالحها زادت تفككًا إلى الحد الذي أوصلها إلى الانهيار.

تشجع الكثير من القادة على تغيير منتجاتهم وخدماتهم من أجل مستقبل أكثر صحة واستدامة. حيث نبهتهم الجائحة إلى أن الاستعداد للتغيير والقدرة على الاستغناء عن أساليب العمل التي لا تناسب الواقع الجديد من أهم عوامل البقاء والازدهار وسط الاضطرابات المستمرة ومتطلبات العملاء المتغيرة وصراعات الأسواق التنافسية.

ختاما: لم تكن جائحة كورونا مجرد أزمة صحية عالمية فحسب، بل كانت حافزا نفسيا قويا وعامل ضغط على الإدارات والقادات حول العالم من مختلف الخلفيات والمدارس الإدارية لتغيير طرقهم التقليدية التي يستجيبون بها للأزمات. هذه الأزمة لم تكن شًرا محضًا رغم الخسارات التي تسببت بها بل ساعدت العالم على الوصول لمراحل متقدمة من النضج والابتكار والتواصل، واختصرت العديد من سنوات البحث والتجارب، وقدمت دروسًا ثمينة لم نكن لنتعلمها لولا هذه الظرف القاسي.



لقراءة المزيد من المقالات في القيادة وتطوير الذات زوروا مدونتي

https://albadr.com/



بدر البدر

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

تدوينات من تصنيف أعمال

تدوينات ذات صلة