رحلتي مع زهرة السوسنة أثناء الحظر هذا العام، كانت درسا في الصبر و الترقب و الجمال

يقضي العديد منا معظم أيامه في الأونة الأخيرة في المنزل، حيث يقوم البعض بأعماله "عن بعد" ويستمرجزء من التعليم المدرسي من خلال منصات التعلّم الالكترونية، ولا شك أن هذه الأطر الجديدة للعمل والتعلّم تتطلب منّا شيئا من التأقلم والصبر، إلا أنها في الحقيقة أقرب أن تكون نعما من تحديات لمن تسمح طبيعة عملهم بذلك، وعلينا في ذلك أن لا ننسى من تعتمد أعمالهم على الأجور اليومية وأفراد المجتمع الذين يعيشون في حالة مزمنة من شح الموارد.

في هذا الوقت من كل عام تبدأ حديقتنا بسمفونيتها الربيعية التي تطل علينا ببراعم أغصان العنب، وأزهار شجرة اللوز، وأزرار الورد، إذ لم يثني الوباء العالمي الذي قلب الأنظمة البشرية رأسا على عقب هذه الكائنات الساحرة عن برنامجها السنوي الدقيق، إلا أن ثمة زائرة ذات مكانة خاصة ورمزية مهمة في الأردن كونها الزهرة الوطنية، ألا وهي "السوسنة".

في ما مضى كنت أشعر بالفرح عندما أرى السور البنفسجي الداكن التي تشكّله سلسلة أزهار السوسن المتراصّة جنبا الى جنب – التي غالبا ما كنت أراها صدفة في نهاية نهار يعجّ بالاجتماعات والمؤتمرات والعمل المكتبي- والتي سرعان ما تذبل بعد أيام، وفي عصر وسائل التواصل الاجتماعي فإنّ ذلك المنظرالجميل غالبا ما يستحق صورة تذكارية عابرة يلحقها "هاشتاغ" #ربيع_الأردن، ومن ثم تطوى صفحة السوسنة للعام القادم، ولكن هذا العام كانت الحكاية مختلفة بعض الشيء..

في صباح أحد أيام الأسبوع الماضي خلال استراحة من عملي المكتبي، وقفت في الحديقة، ولأول مرة منذ بداية الحظر المنزلي لاحظت السكون الذي يخيّم على الحي ممزوجا بتغريد العصافير التي تنتقل بكل يسرمن حديقة لأخرى، غير آبهة للقوانين البشرية من حرمة الديار أو منع السفر، وفي تلك اللحظة وقعت عيني على ساق سوسنة يعلوها زر مدبب شبيه بالرماح التي قرأنا عنها في كتب التاريخ. سارعت في التقاط صورة لها وقررت أن أتابع مشوارها الى أن تزهر بالكامل.

مسحت الغبرة عن حامل الكاميرا، وأخذت أبحث عن آلة التصوير الالكترونية التي كدنا أن نصبح في غنى عنها في عهد الهواتف الذكية، ولأول مرة وضعت الة التصوير على الحامل وضبطتها لتأخذ صورا متتالية على فترة من الزمن على أمل التقاط مراحل تفتح السوسنة كما يفعل المحترفون على قناة "ناشيونال جيوغرافيك"، ولكن أبت الزهرة أن تمثّل للكاميرا، حيث حلّ المساء و لم تزل بتلاتها مطوية على نفسها بخجل، واستمرذلك على مدى خمسة أيام، شاركت فيها صورا يومية على صفحة "الانستاغرام" لدي، مشبّهة حالة الترقّب بتلك التي نشعربها تأهّبا لمولود جديد!

وفي صباح اليوم الخامس، بينما كنّا نائمين، جاء موعد ظهور السوسنة بحلّتها البهية الكاملة وبتلاتها الرقيقة (وكأنها ترسل لي رسالة بأن الذي يريد فعلا أن يحظى برؤية هذه المعجزة عليه أن ينهض قبل الشمس ويتحمّل النسمات الباردة).قد لا أصبح مصورة محترفة للظواهر الطبيعية في القريب العاجل، إلا أنني أيقنت أن الأنظمة الطبيعية لطالما استمرت في دوراتها بغض النظرعن اكتراثنا وتصويرنا لها، وأنها أيضا لها "روزنامة" إلهية تسيّر لحظات حياتها بأدق التفاصيل. إن لم نكن من الذين يمتهنون تربية الحيوانات وزراعة النباتات بصورة مستدامة، فعلى الأقل آمل أن لا نكون من الذين يسببون ضررا لهذه المخلوقات التي تلعب ادوارا لا ندرك بعد مدى أهميتها لاستمرار حياتنا على الأرض، وعسى أن نكون، بين الفينة والأخرى، من المحظوظين الذين يشهدون أحد معجزاتها.. تفتّح زهرة السوسنة في ربيع الأردن.


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات نحو عالم مستدام/ بقلم شدى الشريف - SustainMENA

تدوينات ذات صلة