دائما كنت مقتنعة أن الاحلام تتحقق، وأن الحظ هو من صنع أيدينا، وأن كلمة ظروف ما هي إلا مبررات للكسل الذي يؤدي الى الفشل.

فأنا قد قررت منذ فتره أن أحذف كلمة الظروف من قاموسي اللغوي ولم أعد أذكرها، وأن أبحث دائما على طريقة للوصول الى هدفي. وقد جاء بطل قصتنا ليؤكد هذا الامر لي، أن النجاح او الفشل هو نتاج أيدينا، وأنه مهما كانت ما نسميها ظروف، هي امر قابل للتطويع لتحقيق أحلامنا ولنجاحنا. قصتنا هي قصة حياة شخص مصري وضع اسمه واسم وطنه في السماء. ولد في قرية طوخ الأقلام قرب المنصورة، والده كان فلاح تحول الى أستاذ أزهري بذكائه وبحبه للعلم والعمل ، وأمه كانت سيدة ريفية طيبة وذكية مثل كل أم مصرية وعربية. أنها قصة نجاح العالم الجليل فاروق الباز.كأي شاب كان للدكتور فاروق الباز حلم وهدف. فقد كان حلمه هو أن يصبح طبيبا يتخصص في جراحة المخ، فأخذ يسعى لتحقيق حلمه بكل جهده، فأخذ يشرح الضفادع وهو لا يزال في المرحلة الثانوية ، وكان مدرس الأحياء يقول عنه دائما: "الولد ده سيصبح جراحا ماهرا يوما ما"، وتمر الأيام ويكبر الحلم. لكن عندما جاءت سنة الحسم - بالنسبة لكل المصرين - الثانوية العامة، ذاكر واجتهد جدا ليحقق حلمه، وبعد الانتهاء من الامتحانات انتظر على أحرّ من الجمر، إلى أن جاء يوم ظهور النتيجة، وكانت المفاجأة، الشاب الطموح لن يدخل كلية الطب أبدا!!!لم يجلس الشاب الطموح بائسا يندب حظه، ولم يلعن الظروف، بل قلب الصفحة وهو مقتنع أن هناك صفحات كثيرة لازالت أمامه. ونتيجة للتنسيق دخل قسم -كان غريب في تلك الايام- كيمياء وجيولوجيا في كلية العلوم جامعة عين شمس. لم يكره اختيار القدر، بل عمل على الاجتهاد والتفوق، وفعلا نجح وتفوق وحصل على بكالوريوس ( كيمياء – جيولوجيا ) وكان من الأوائل، لذلك تمَّ تعينه في قسم الجيولوجيا في جامعة أسيوط، واستطاع هو وزملائه من تأسيس مركز جيولوجي مهم ،لأنهم جميعا كانوا مدفوعين بولاء كبير للعلم والجامعة والوطن، وهذه سمة من سمات هذا الجيل. لم يتوقف عند هذا الحد، بل أخذ يبحث في كل الطرق لكي يتميز في تخصصه حتى يستخدمه لخدمة ليس وطنه فقط بل البشرية، ونتيجة لبحثه تمَّ اختياره لبعثة علمية الى الولايات للدراسة في مدرسة ميسوري للمناجم والمعادن .وفي مدرسة ميسوري التي كانت تعتبر من أهم الجامعات في العالم في حقل الجيولوجيا، جاهد وثابر وتعلم، وتفوق إلى أن حصل على الدكتوراة في تخصص الجيولوجيا الاقتصادية. وعاد إلى مصر بمشروع قومي كبير جدا، وكان طموحه هو تأسيس مدرسة مصرية في الجيولوجيا الاقتصادية لا مثيل لها في العالم . لكن كانت صدمته كبيره فلم ترفض الجامعة هذا المشروع - الذي كلفه الكثير جدا من الجهد والمال- فقط بل وأسندت له الحكومة وظيفة مدرس في الكيمياء في معهد عالي في السويس بعيد تماما عن دراسته التي قضى فيها ثماني أعوام!!!حاول كثيرا أن يصل الى تغيير وظيفتي بما يتلائم مع إختصاصه لكن كل محاولاته باءت بالفشل. لكنه لم يقبل ان يقتل حلمه، وظل عاما كاملا بلا عمل وبلا راتب، وقد وصلت به الامور الى اوضاع اقتصادية سيئة جدا. لكنه منذ نعومة أظافره تعود ان يتخطى المصاعب لكي يصل الى هدفه. وطريقة تعامله مع هذه المصاعب – كما رأينا- هي التي جعلت منه ناجحا، بل من أنجح الرجال في العالم اليوم. لذلك قرر العودة الى الولايات المتحدة ليكمل مشواره وحلمه، بعد سنة من المعاناه هاجر دكتور الباز الى امريكا، ولأنه قد وصل بعد بدء العام الدراسي فلم يستطيع الالتحاق بأي جامعة من الجامعات لكي يدرس فيها ، فأخذ يرسل طلبات التحاق الى الشركات ولكنه ايضا لم يوفق. الى ان وفق بقبول طلبه وتعينه على مشروع في وكالة الفضاء الاميركية وكان المشروع يتعلق بجيولوجيا القمر، وبالرغم أنه لم يكن حينها يعرف ماذا تعني "ناسا" ولا يفقه اي شيء لا بالقمر ولا بجيولوجيته (كما يقول هو نفسه). لكنه كان بحاجة ماسة للعمل لاعالة عائلته. و كانت طبيعة عمله في هذا المشروع، عبارة عن استلام تقارير من الجيولوجين الكبار و القيام بتلخيصها و من ثم ارسالها اليهم من جديد. لكن لانه اراد ان يتميز ويثبت نفسه عكف على دراسة ما يقرب من حوالي 4322 صورة خلال ثلاثة شهور كاملة ليعرف كل شيء عن القمر، ونتيجة لاجتهاده توصل الى معلومات متميزة. حيث استطاع من خلال دراسته الذاتية، اكتشاف بأن هناك ما يقارب 16 مكاناً يصلح الهبوط فيها فوق القمر ، و من هنا استطاع الباز ان يدخل تاريخ وكالة ناسا ، فأسندت له وكالة ناسا مهمتين رئيسيتين في أول رحلة للهبوط الى سطح القمر، كانت المهمة الأولى هي اختيار مواقع الهبوط على سطح القمر ، أما الثانية فكانت تدريب رواد الفضاء على جيولوجيا القمر، و تميز جدا في هذه المهام الى ان اصبح من أبرز علماء الجيولوجيا في وكالة ناسا، و بسبب نجاح دكتور فاروق في تدريب رواد الفضاء ، و تفانيه في عمله مع اعتزازه بدينه و عروبته، أرسل نيل أرمستورنج-أول إنسان هبط على سطح القمر- له رسالة من الفضاء باللغة العربية شكرا وتقديرا له، ولقد أعطى الدكتور فاروق نيل أرمستورنج ورقة مكتوب عليها و موضوعه في حافظة بلاستيكية، و طلب منه اصطحابها معه الى القمر، و كانت هذة الورقة مكتوب عليها سورة الفاتحة ودعاء من الدكتور فاروق الباز بالنجاح للفرقة!! ولاجتهاده و علمه و عمله الدؤوب اسندت له مهام اكبر على سبيل المثال أصبح رئيس أبحاث تجارب المراقبات الأرضية في الرحلة الفضائية الشهيرة أبوللو- سويوز،كما اطلق ناسا مكوك إلى الفضاء اسمته مكوك: الباز Shuttlepod El-Baz"، حصل الدكتور فاروق على أكثر من 31 جائزة عالمية, تكريما لإنجازاته العلمية التي خدمت البشرية، كما أنه هو مؤسس مركز دراسات الأرض والكواكب في المتحف الوطني للجو والفضاء بمعهد سميث سونيان بواشنطن، و أنشأت الجمعية الجيولوجية الأمريكية, جائزة عالمية رفيعة المستوى, اسمها جائزة فاروق الباز لأبحاث الصحراء تمنح لعلماء الجيولوجيا البارزين على مستوى العالم. ورغم كل تفوقه و رغم الاسى الذي وجده لم ينسي مصر و وطنه العربي، و قام بعمل بحوث عديدة لصالح تنمية المنطقة و قد إكتشف كميات من المياه في سيناء و كميات أخرى كبيرة صالحة للاستخدام الزراعي في جنوب شرق مصر. كما قام بتطوير نظام الاستشعار عن بعد في اكتشاف بعض الآثار المصرية . وقدم دراسة علمية دقيقة لكيفية الإستفادة من الموارد الطبيعية لمصر، و دعا إلى أهمية دراسة المياه الجوفية، والتي يهدر منها الكثير في البحار والمحيطات دون استخدام، وطبَّق التكنولوجيا الفضائية لدراستها ودراسة مسارات البحيرات النابضة، وقد عمل على إنشاء مراكز تدرس التصوير الفضائي والاستشعار عن بُعد في كل من قطر، مصر، السعودية، والإمارات.كما أنه عمل دارسة مائية في سلطنة عمان و تنمية الموارد المائية في دولة الإمارات العربية المتحدة. هذه هي الظروف التي نلعنها، كانت السبب لأن يستطيع فاروق الباز المصري والعربي و المسلم بل الانسان، أن يغير وجه الارض وأن يفيد البشرية بعلمه، هذا العالم الذي فتح الله عليه طاقة النور، لتوكله على الله بعد ان حاول واجتهد ولم ييأس ابدا.


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات غدقا - د. غادة عامر

تدوينات ذات صلة