"إنّ الرُّقيّ و التّحضُّر لا يعلَمانِ إلا لغةً واحدةً ولا يُجيبا النِّداءَ لِسِواها، إنّها لُغةُ الجميع"
كيفَ ندّعي السعي للإصلاحِ والتقدُّم في مجتمعاتنا وحياتنا ونحنُ قد ضربنا الركيزةَ الأساسيّة التي يقومُ عليها المجتمع الفاضلُ أعنَفَ الضّرب والقمع؟ الرّكيزةُ التي تُبنى عليها مجتمعاتٌ مليئةٌ بالاختلافات العِرقيَّةِ والدينيّةِ والفِكريَّةِ والثقافيَّةِ وغيرِها. إنَّها ركيزةُ العيُشِ المشترك السلميّ، ولا أعني بالسلميّ أي الخالي من العراكاتِ والقتالاتِ فقط؛ بل تِلكَ النِّزاعاتُ الداخليّة التي شوّهت العيش المشترك مفهومًا واصطلاحاً. ذلِكَ التَّناقُضُ الذي يدكُّ قلوبَنا وعقولَنا دكّاً قاسياً، ما بين علمنا الطريقَ الحقيقيَّ الصَّحيحَ للنّهوضِ وما بين إصرارِنا على البقاءِ بكلِّ بلادةٍ وبلاهةٍ بما نحنُ فيهِ من تَقَهقُرٍ وتخلُّف. هذهِ الرّكيزَةُ التي ذَكَرت، كانت عبرَ التَّاريخِ ولا زالت هَدَفًا يرنو إليهِ كُلُّ من يرى الأخلاقَ والفَضيلَةَ سَبيلًا للخَلاصِ من كُلِّ المِحَنِ والشُّرور عَبرَ خَلقِ مُجتَمَعٍ يقومُ على العدالةِ في كُلِّ مَنحى من مناحيه. الآنَ يستَوجِبُ عليَّ التَّطَرُّقَ لِعبارةِ المُجتَمَعِ الفاضِل التي استعَرتُها في مَطلَعِ المقال.
المُجتَمَعُ الفاضل، أو بالأحرى المدينةُ الفاضلة، مُصطلَحٌ استحدثَهُ السِّياسِيُّ والفيلسوفُ الإنجليزيّ (توماس مور) عن مشروع كان قد طَرَحَهُ (أفلاطون) الفيلسوفُ اليونانيّ قَبلَ فجرِ الميلادِ بِحوالَي أربعةِ قرون. لا يَختَلِفُ مَضمونُهُ عن لاحِقِه، وإنَّما كانت محاولاتُ الفلاسِفَةِ لِمُحاكاةِ دولةٍ فاضِلَةٍ يسودُها العدل و السّلام، دائمًا ما تَرتَبِطُ بُظروفِ زمانِ كُلٍّ منهم و مُعطَياتِه. رُبَّما كانت بَعضُها أصلَحُ من غيرِها في ساحةِ التَّطبيق، وإن سَبَرنا غَورَ سِيَرِ حياتِهِم، لَوَجدنا أنَّهُم بُعِثوا في أشَدِّ أطوارِ التَّخَلُّفِ والتَّقَهقُرِ التي كانت تُعاني مِنها دُوَلُهُم. كانت مُخرجاتُهُم مُسَخَّرَةً في سبيلِ وَضعِ أُسُسٍ إصلاحيَّةٍ لأحوالِ الدَّولةِ بِمُختَلَفِ المجالاتِ التي تَقومُ عَلَيها، ومِنهُم من عُوديَ أشدَّ العَداءِ مِن قِبَلِ السُّلطاتِ الحاكِمة من جهة، ومِن المُجتَمَعِ الذي يتغذّى بِمَرجِعِيَّةِ الدَّولةِ من جِهةٍ أُخرى. عِندما يُذكَرُ مُصطَلَحُ المدينة الفاضِلة عَلَينا، تَسيرُ عُقولُنا بَديهيًّا لِ(أفلاطون) الذي نَظَمَ ما أسلفنا القولَ عَنهُ في كتابِهِ (الجُمهوريَّة)، عِلمًا أن الجمهوريَّةَ في اللُّغةِ اليونانيِّةِ لا تعني الدوَّلة، بَل تَعني الآدابَ والأخلاق، وكانَ طَرحُهُ بِمثابَةِ إلهامٍ لِكُلِّ من لَحِقوا بِرَكبِهِ من الفلاسِفة في هذا المقام.
بِغَضِّ النَّظَرِ عن بعضِ النِّقاطِ التي أراها تَفتَقِرُ إلى عُنصُرِ المَنطِقِ في جمهوريَّةِ أفلاطون، والتي حالت دونَ تَطبيقِها، إلا أنَّ مِن أهَمِّ المَحاوِرِ التي استنَدت عليها الأطروحَةُ هي ضرورَةُ نشرِ العدلِ بين النَّاسِ أجمعين. حتى يَصِلَ المُجتَمَعُ مَرتَبةً عُليا من الانسجام بناءً على التَّقسيم الوظيفيّ الذي لجأَ إليهِ فيلسوفُنا لِكُلِّ فئة. ولكنَّ، مفهومَ العدالة لدى (أفلاطون) كانَ بِعَينِهِ مُغايِرًا لِمفهومِ العدالةِ الذي حقًّا يَضمَنُ انسجامًا وتعايُشًا سليمًا بين الخلائق، فكَيفَ تكونُ عدالةً بينَما تُفرَضُ علينا بعضُ الأمور الجوهريَّةِ التي تُحَدِّدُ مسارَ حياتِنا فرضًا دون أن يكون لنا في تَقريرِها رأيٌ ولا مشورة؟
على أيِّ حال، دعوني أُحاوِلُ إسقاطَ مفهومِ العدالةِ على جُزئِيَّةِ التَّعايُشِ السِّلميِّ إسقاطًا مُتواضِعًا. العَدالَةُ العامَّةُ تَهدِفُ النَّظَرَ إلى أحوالِ كُلِّ فَردٍ منَ الأفراد، شَريطَةَ استنادِها على بُنيَةٍ قانونِيَّةٍ سليمَةٍ انطلاقًا من مبدأِ المساواة في الحُقوق. ومنَ الحقوقِ التي إن تَمَكَّنَّا تَطبيقَها علينا كجماعاتٍ وبينَنا كأفراد؛ لقادتنا إلى مُجتَمَعٍ مُتعايِشٍ على أكمَلِ وَجهٍ مهما كانت الاختلافاتُ مُنتَشِرَةً بينَ أطيافِه، كَحُرِّيَّةِ الاعتِقادِ، وحُرِّيَّةِ التَّعبيرعن الرَّأي، وحُرِّيَّةِ الانتماء، وغيرِها الكثيرُ شريطةَ الالتزامِ بِمَصلَحَةِ المُجتَمَعِ كَكُل. بِما أن لكلِّ فردٍ على هذه الأرض معتقداته التي يعتقِدُ بها وأفكارُهُ التي يؤمِنُ بها وشيءٌ ما يكنُّ لهُ باحترامٍ وتقديسٍ مُنقطِعا النَّظير دون أن يؤذي من هُم حولَهُ بها أو يُزعِجَ غيرَهُ بِها. فهو حَقُّه، ولا يَحِقُّ لنا السُّخرِيَةَ من معتقداتِه وما هوَ بِهِ مؤمن، بل وَجَبَ الاحتِرامُ المُطلَقُ في هذا المقام.
من يَقصُدُ المعرِفَةَ الصَّادِقَةَ يبقى دومًا مُلتَزِمًا بأسُسِ النِّقاشِ واحترامِ الغَيرِ دونَ تَجريحِه
إنَّ القضايا الفكريَّةَ التي طُرِحَت عبرَ التَّاريخ أو نشأت مَعَه، تَتَطَلَّبُ مِنَّا تَفَهُّمًا وسِعَةَ صّدرٍ كافِيَةً حتّى نُلِمَّ بِما جاءَت بِهِ من مضمون، ولا تكونُ قضِيَّةً حقيقيَّةً دونَ أن تُوضَعَ موضِعَ نِقاش بينَ المُهتَمِّينَ بِها. لأنَّ المعرِفَةَ الفردِيَّةَ لا تَطولُ دائِمًا جوانِبَ القضايا كُلِّها، وإنَّما يحتاجُ كلُّ باحِثٍ عن المعلومةِ أو الاستِفادَة، بأن يَنهَلَها مِن كُلِّ المصادِرالمُتاحَةِ له. لذلكَ يُعتَبَرُ خوضُ النِّقاشاتِ إحدى المَصادِرِ الرَّئيسَةِ لإثراءِ المُحتوى المعرِفي، ما جَعَلني أتَحَدَّثُ بهذا، هو أهمِّيَّةُ تَقَبُّلِ رأيِ الغيرِ وإفساحِ المجالِ لِطرحِ ما يراهُ في أيِّ موضوعٍ كان، وعَدَمِ الاستِهانَةِ بِما يراهُ صحيحًا. وبِذاتِ الوقتِ فإنَّ التَّعَصُّبَ لِفِكرةٍ مُعَيَّنَةٍ قد يُشَكِّلٌ ضبابَةً تُغشي بصيرَتَنا وتَسرِقُ مِنَّا فُرصَةَ الحُصولِ على المعلومة، ظَنًّا مِنًا أنَّنا على صواب، فمن يَقصُدُ المعرِفَةَ الصَّادِقَةَ يبقى دومًا مُلتَزِمًا بأسُسِ النِّقاشِ واحترامِ الغَيرِ دونَ تَجريحِه. تَقَبُّلُ الغير يأتي دائِمًا في المَرتَبَةِ الأولى، حتّى لو اختلفت وجهاتُ النَّظَر، أو تقاطَعَت المصالِح، أو كانَ كُلٌّ مِنَّا يَتبَعُ تَوَجُّهًا مُعَيَّنًا أو ذا مَرجِعِيَّةٍ مُختَلِفة، فإنَّ النُّهوضَ الحضاريَّ ما كان أبدًا بِغَيرِ هذا.
ما العيبُ بأن يكون لكلٍّ منا معتقدٌ خاص؟ أو ما العيب أن تكونَ معتقداتٌ ما مشتركةٌ بين مجموعات من الأفراد؟ من قال أن هذا كلَّهُ يقِفُ عائقاً في طريق التقدم والتحضُّر والتطوّر؟ لو أدركنا عقولنا التي وُهبنا لِلحظة وعَرِفنا مواطِنَ ضَعفِنا وقُوَّتِنا، لأدركنا أنَّ ما من شيءٍ يقِفُ في طريقنا أكثَرَ من رفضنا لغيرنا. والرّفضُ إن تعمقنا بمعناه وماهيّته فسنعلم أن مجرّد السخرية من غيرنا واستهزائِنا بِه هُما رفضٌ قاطِعٌ له، وبِذا يكونُ مؤذِنًا بِتَفَكُّكِ المُجتَمع وخَرابِه، ولن يكونَ لنا أيُّ مُنجِدٍ في هذه الحالة.
في ظلِّ عالَمٍ تسودُهُ المعتقداتُ الدينيّة التي تُعدُّ أكبر مِظلّةٍ قد وُجِدَت لِجمعِ الأفراد بغضِّ النّظر عن التزامهِم بها. يجِب علينا أن نُدرِك أنها من أَولى الإختلافات الموجودة أحقيّةً وحاجةً لعنصر العيش المشترك. لا يحِقُّ لمعتنقي الديانات أن يسخروا من بعضهم البعض، ولا يحِقُّ لي إن كنتُ ملحداً أو (لا أدريّاً) أن أسخر من أصحاب المعتقدات ومعتنقي الديانات أو من طقوسهم الدينيّة ولا أن أستهزأ بما هُم بِهِ مؤمِنون. كما لا يحِقُّ لمعتنقي الديانات السخرية ممن رفضت قلوبهم فكرةَ وجودِ خالق، وكيفَ نكونُ كالبُنيانِ المَرصوصِ إن كانَ كلُّ صاحِبِ اختلافٍ منا يسعى لإثباتِ صِحةِ معتقده على أنّه المنهج الذي إن سلكَهُ غيره قد يفضي بِهِ لحياةٍ فاضِلة؟ وإن لم يفعَل (فلا مِنهُ ولا من دينِهِ)! وكيف نصيرُ مجتمعاً راقياً بينما أحدنا يسخَرُ من أحَدِنا الآخر (على أنَّنا وِحدةٌ واحِدة)؟ إن كانَ هذا حاصِلًا فَما كُنَّا أبدًا يدًا واحِدةً ولا أصحابَ رؤيَةٍ واضحة. وإن لم يَكُن؛ فما ظَنَنتُ بِغَيرِ هذا حتّى نصيرَ مجتمعاً محترماً خاليًا من العِراكاتِ والنِّزاعات التي تُغَذِّيها الأنفَةُ والأنانيَّة دونَ أن تَرجِعَ علينا بالفائدةِ والمَنفعَةِ العامّة.
إنّ الرُّقيّ و التّحضُّر لا يعلَمانِ إلا لغةً واحدةً ولا يُجيبا النِّداءَ لِسِواها، إنّها لُغةُ الجميع
لماذا لا نضع هذه الخِلافات جانِباً عن طريقِ نهضتنا ونُوَظِّف اختلافاتِنا ونتّحِد مع بعضنا؟ لماذا لا ندرك أننا نحنُ الحِجارةُ التي منها يُبنى المستقبل الرَّغد وأننا إن افتَرَقنا فسيسقُطُ في قلوبِنا حِصنٌ منيعٌ لطالما حلمنا بِه؟ وأخيراً ؛فإنّ الرُّقيّ و التّحضُّر لا يعلَمانِ إلا لغةً واحدةً ولا يُجيبا النِّداءَ لِسِواها، إنّها لُغةُ الجميع التي تنطِقُ بها القلوب مُتَّفِقَةً على المصير المستقبليّ المشترك مهما سادت تلكَ الاختلافات، فلنتقبل بعضنا البعض على اختلافنا ولنتَّحِد صوبَ هدفٍ واحِدٍ في سبيل تحقيق ما نرجوه، المجتمعُ الفاضِل.
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات