حدثني صديقي منذ قليل عبر الهاتف عن تطبيق جديد للـ"Dating" (تطبيقات المواعدة)
وهو تطبيق يمكنك من خلاله التعرف على أشخاص جدد، فكرة التطبيق تعتمد على عرض صور الأشخاص وأنت تختار مِن بينهم مَن يثير إعجابك، وإن لم يعجبك أحد يمكنك أن تتخطى صورته بمجرد تحريك إصبعك.
الأمر يبدو ممتعاً للوهلة الأولى، فأنت تشاهد صوراً لأناس كل منهم يحاول إبراز أجمل ما فيه حتى يحظى بأكثر عدد من المعجبين به. أكمل صديقي حديثه وهو يخبرني عن تلك الفتاة التي يحدثها عبر هذا التطبيق، سائلاً إياي ما الذي عليه فعله معها؟ ظناً منه أني أحمل كتالوج التواصل البشري وأجيد نصح الإنسان، أخبرته بما عليه فعله وكأني خبير في نفوس البشر، وكأني أعرف ما الذي يدفعهم للبقاء داخل منظومة العلاقات الاجتماعية.
لماذا يتجه البعض إلى "تطبيقات المواعدة"؟
أغلقت هاتفي بعد أن انتهيت من حديثي مع صديقي، لكن هاجمتني الأسئلة تلتهم خلايا عقلي.
ما الذي يدفع شخصاً لفعل مثل هذه الأمور؟
هل أصبحنا نريد التواصل مع الآخر دون التقرب منه؟
النفس البشرية مُخيفة وأكثر تعقيداً مما حاول الفلاسفة وعلماء النفس عبر العصور معرفته وماذا تريد؟
تخيل معي الأمر في "تطبيقات المواعدة".. أنت تسير في ممرّ طويل داخل متجر يعرض بشراً وعلى الجانبين أشخاص متنوعة مرصوصة على الرفوف.. هناك الأكثر ابتسامة، والأطول شعر، وهناك ممشوقة القوام، وهذا مفتول العضلات، وأنت تنظر إلى كل واحد منهم كسلعة تريد الحصول عليها بما يثير إعجابك ويحرك غرائزك نحوه، فتمسك بأحدهم وتقلبه شمالاً ويميناً لترى ما المميز فيه لتضعه في سلة مشترياتك، لتخلق معه ذكريات مشتركة.. الأمر أشبه بمزحة، لكنه حقيقي.
إننا في احتياج إلى الآخر مهما فعلنا، وهذا الاحتياج يقلم أظافرنا ويخلع أنيابنا ويروّض وحشيتنا، ليعود بنا وديعين أذلاء في مقابل الحصول على ما نريد، لكن كل هذا في بداية الأمر إلى أن نعتاد الشيء الذي حصلنا عليه، ومن ثم نعود إلى طبيعتنا.
إننا نتجنب الوقوع في الاحتياج الدائم، بالوقوع في الاحتياج المؤقت، نشبعه من وقت لآخر، بكلمة أو وعد بالحب، أو قبلة، أو ساعة فراش، أو محادثات في تطبيقات المواعدة، ثم يذهب كل واحد منا إلى حاله.. بدون أمل، وبدون خيبة أمل.
الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، كما يقول ابن خلدون، يسعى دائماً لخلق قوالب يمكنه من خلالها التعارف على نفسه ومساحة الاحتياج الإنساني التي يريد أن يضع نفسه داخلها للتواصل مع الآخرين، لذلك أدرك حجم الضعف داخل نفوسنا، عدد انكسار قلوبنا، مدى الحزن الذي يتسبب باستنفاد طاقتنا.
إننا نُرهق أنفسنا بأمور تزيد التعقد داخلنا، نُفتش جيداً في دفاتر الماضي، ونبحث بين طيات الزمان عن ابتسامة قد تاهت، عسى أن نجدها ولو صدفة، وتناسينا أنّ الصُّدف لا تأتي مع الانتظار.
هذا ما يدفعنا إلى خلق عادات نمارسها لأنها تُشعرنا بأننا ما زلنا على قيد الحياة.
تطبيقات المواعدة سهلت علينا التواصل مع الآخرين، وبالرغم من هذه الميزة، فإنني أعتقد أنها أسوأ تكنولوجيا اخترعها واستخدمها الإنسان الحديث.
تلك الذاكرة المُحمولة بكلّ ما عشت به وأنت تسترجع شريط الأيام؛ شغف البدايات، واندفاع المُحادثة الأولى، وكأنك تضع كلّ أوراقك السرية في قلب من تحدثه، الأمر أشبه بالاعترافات المُتأخرة وأنت تسرد كلّ تفاصيل يومك.. شعور الراحة والارتياح الذي لا ينتهي بانتهاء الحديث.. خصامك ولحظات الدلال.. المُناقشات التي كُنت لا تضع لها خطة مُسبقة.. الحنين الذي قتلك في الليلِ، فترسل على الفور "أنا أفتقدك".
تلك الليالي التي أطلت النظر فيها إلى هاتِفك تظن أن هناك رسالة سوف تأتي منه، ذاك الانتظار الذي أكل من روحك كثيراً، وجعلكم كالغرباء. تطبيقات المواعدة التي تنتهي بلقاءات حميمية ربما، ثم تنتهي القصة، دليل قاطع على مدى تغيّر وتحوّل المشاعر الإنسانية بشكل مُخيف. عندما نعود إلى محادثاتنا السابقة ندرك جيداً أننا لم نعد نفتقد الأشخاص، لكننا نفتقد الشعور اللذيذ الذي كنّا نعيشه معهم.
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات