في ظلّ الحديث عن التربية والعلاقة بين الأولياء مع الأبناء،عن أوّل منشأ لأي إنسان، كل تصرف نراه في شابٍ هو انعكاس لما تشرّب منه في طفولته...
شاهدت قبل أيّام مقاطع فيديو لشابٍ لم يبدِ أيّ احترام في حديثه مع والدتهِ، نزلا ضيفانِ على حصة تلفزيونية، بعد بثّها كثرت الأقاويل عنهما، وراح غالبية المعلّقين على الحادثة واللغة القاسية التي تحدث بها الابن مع أمه أمام مرأى العالم، إلى القولِ أنه ولد عاق، شاب طائش، ابن حراام.. وغير ذلك من الأحكام الموجّهة إليهِ.
عندما ننظرُ من زاوية أخرى أقرب إلى هذهِ الحادثة، تسلّط الضوء على الأوراقِ التي لم تُكشف في الحصة، والتي قال عنها معدّ البرنامج لاحقًا في فيديو على حسابهِ أننا لا نعلم جميعنا ما مرّ بهِ هذا الشاب طوال عمره، ولا كيف صار يملك ذلك الوجهَ البارد في المعاملة مع أمّه.
نعم، هذا ما كان يجبُ البحث فيه، التعمّق أكثر لفهمِ الأسباب التي تجعلُ طفلًا ينفر من أبويه، فكثيرًا ما يتحدّث الناس عن حبّ الآباء، واحترامِ الأولاد لذويهِم، ذلك أمرٌ عظيم، وأعظمُ منه التفقّه في العلاقةِ بينهما.
يأتي الطفلُ إلى الحياةِ ورقة بيضاء، ثمّ يزرع فيهِ الأب والأم أفكارهما، رؤيتهما، التصوّراتِ التي يحملانها، وإذا هما انسحبا من المهمة الرئيسية والمسوؤولية الكاملة الملقاةِ على كاهلهما انفردَ بالولدِ آخرون بعيدًا عن أعين الآباء والأمّهات، ليست المدرسة وحدها، وليس الشارع وحده، ولا الأقارب.
في هذا العصرُ صار الإهمالُ الأسريّ في حلقة التربية أكثر شيوعًا، ومن أسبابهِ الاهتمام الكبير الذي يوليهِ الأبوان للعمل والمادة على حساب التربية، بل وربطهما لفكرة التربية بتوفير الأمور المادية من أكلِ، شرب ولباس للطفل، مع مراعاةِ أدنى لأمور أخرى روحانية نفسية.
إهمال تربية الطفل في مرحلة عمرية صغرى قد يكون متعمّدا كذلك، من خلالِ الحرية المطلقة التي يُمنح إيّاها في وقتٍ مبكّر.
وكلها تجعلُ الطفل عرضة لأفكارٍ ليست كالتي يحملها الأباء في أحسن الأحوال، فكرٌ آخر مختلف تمامًا، قد يصل الحال بها إلى معتقداتِ تفاجئ الأهل في وقتٍ متأخّر حين يفصحُ عنها، ويكون حينها الجميعُ مكبّلا لا حول له ولا قوّة، لا يعودُ الطفلُ إلى الحضنِ الدافئ الذي جاء متأخّرًا، ولا إلى البيتِ السعيدِ " مزاحًا" كما خطّط له الأبوانِ قبل ارتباطهما.
وعن الإهمال الأسري في حلقةِ التربية كذلك المتعلق أساسا بالمتابعة كأقل تطبيق للمسؤولية تجدُ اليوم في ظلّ هذا الانتشار الهائل لوسائل التواصل الاجتماعي الأمّ والأبّ يقضي وقته على المواقع بدل التفرّغ للحديث مع أبناءهِ، أو مرافقتهم إلى الساحات، مناقشة أفكارهم، التحدّث إليهم، رعايتهم رعايةً نفسية ومتابعتهم عن قرب، التقرّب منهم وفهمِ حاجياتهم وما هم مقبلون عليه، الإحسان إليهم كي يحسنوا إليهِ لاحقًا.
أفمَن يغرسُ بذرة خيرِ في روحٍ بيضاءِ كمن يتركُ الروحَ الطاهرة للرياح تتقاذفها هنا وهناك، إمّا تكبر عرجاء أو مائلة.
وتكون هذه التربية وسطية، لا تفرطُ في اللين أو القسوة، لا تفرضُ سلطتها بالعدوانية أو تتخلى عنها كاملة، إلى ذلك اليوم الذي ينضج فيهِ الطفل ويصير قادرًا على التمييز بين الصواب والخطأ، متمكّنا من حلّ مشاكلهِ بنفسهِ بعد محاولاتٍ وتوجيهات، عارفًا بما عليهِ وما له، متشبّعًا من حنانِ والديه ومشاعرهما الجميلة التي سُقي هو نفسه بها وبادلهما كلّ تلك المشاعر الجميلة، لأنهما كانا قريبانِ منه، يحفّزانِهِ ويعلمانِ أين سيضعُ الخطوة بعد الخطوة، يبوحُ لهما بالأسرارِ لإدراكهِ أنهما لن يخوناه، والكثير الكثير من القيمِ الجميلة.
لا يجبُ أن تسرقنا الحياة من أبناءنا، لا يجبُ أن تسرق الحياةُ أبناءنا منّا ثمّ نمارسُ بكلّ حنقة البكاء والرثاء.
ازرع جميلًا ولو في غير موضعه، يبقى الجميل جميلًا حيثما زرعًا
إنّ الجميل ولو طال الزمان به، فليس يقطفه إلا الذي زرعًا ( علي ابن أبي طالب)
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات