لكل بداية نهاية محتومة فهل يا تراها نهايتي قد اقتربت ام انها ليست سوى البداية وحسب ! ! !

- ما خلف القضبان –

(سمر رجب)

انا حامل!!

صُعقت عندما رأيت شريط اختبار الحمل يتلون بالأحمر امامي بشرطتين تلك علامة اكيدة على نبض صغير سيتولد بداخلي بعد فترة ليست بالطويلة، لم أكد اصدق انني استطعت ان اكسر قضبان ذاك السجن الموحش المزين بـ " دبلة " تخنق روحي قبل إصبعي حتى يكون للقدر كلمة أخرى - كلمة - سوف تعيدني لغياهب الجُب بكل بساطة، ونسيت ان هذا الحمل هو حلال شرعي واستمر على لساني قول واحد لا اردد سواه " ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا ".

عندما يعلم ابي بالتأكيد سيخبر جلادي القاسي ليردني الى عصمته لا اتركوني افيض بما يعتمر به قلبي ويمتلئ به صدري تلك ليست عصمته بل جحيمه وعفن جدران بيت مثله كمثل السجن بين طيات قسوة سجانه وبرود قلبه قبل كفيه.

ما زلت أتذكر كيف تخلصت من قبضته بأعجوبة وكيف يسر الله لي الطلاق بعد بضع سنين اتجرع بها الويلات بكل الكؤوس بجميع اشكالها والوانها، اذكر انني سجدت من فرحتي ولم ارفع راسي الا عندما دارت بي اركان الغرفة من فرط التعب لم اشعر قط بفرحة مثل تلك بحياتي كلها، وأيضا لم اشعر بحزن يقسم القلب مثلما شعرت وانا ممسكة باختبار الحمل وكأنه سوط من حديد يهبط على قلبي بلا رحمة.

لابد ان اتخلص من نبض الشر الذي يترعرع بداخلي يوما بعد يوم لن أخبر أي منهم بذاك الخبر القاتل، سأجعل هذا الامر طي الكتمان وعندما اتخلص منه سأعود حرة من جديد وكأن شيء لم يكن!!

عزمت على هذا بمنتهى القوة ولا تراجع فيما انتويت ابدا، لكن خانتني الظروف حينما سقطت مغشيا عليّ لم اتحمل ذاك الدوار - المصاحب لأعراض الحمل عادةً - الذي هاجم راسي بلا هوادة وساعده على ذلك تلك البغيضة التي تدعى " انيميا " فأخذتني امي الى الطبيب رغما عني عندما لاحظت ان وجهي أصبح شاحبا فرت الدموية هاربة منه وظهرت عظام وجهي بارزة لتعلن عن جسد هزيل لا يدخل اليه الا بعض اللقيمات ليقمن صلبه.

أخبرها الطبيب ان تلك الاعراض من المرجح جدا ان تكون اعراض حمل يتكون برحم "يريد ان يلفظ ما بداخله باي ثمن" حزنت امي لدى سماعها لتلك الصدمة فهي مثلي تماما فرحت كثيرا حينما اُطلق سراحي من تلك الزيجة المميتة فكيف يتكون لها ذيول الان، كانت امي مسكينة لا تستطيع مواجهة زوجها العصبي الثائر طوال الوقت واحكامه التي لابد وان تنفذ حتى على رقابنا جميعا فكيف لها ان تتخذ صفي وتقف امام نيران جبروته؟

لاحظت دمعة ساخنة فرت هاربة من مقلتيها رغم انها عملت جاهدة على محاربتها كي لا تفضح ما بداخلها من حزن على حياتي السوداء، ربت على كفوفها الصغيرة التي أصبحت بفعل السنوات منكمشة الجلد لكنها لا زالت تحافظ على دفئها وحنوها الكبير، قلت لها بلسان صادق وواثق أيضا:

- لا تحزني يا امي فربما لله شان لا نعلمه بما يحدث.

بالطبع لم أخبرها بما يعتمل بصدري من نوايا للتخلص من جنيني صاحب الامر في عودتي لأعاني الامرين مرة أخرى، فقط طلبت منها الا تخبر ابي او اخوتي عما علمناه من الطبيب بحجة انني اريد لملمة شتات امري قبل ان اعود من حيث ركضت للنجاة.

امتثلت امي لطلبي البسيط منها، لكنها ظلت أسيرة الحزن لفترة تقرب الى الأسبوعين وهي تراقبني من بعيد وتعلم جيدا بقلبها الذي يحتوي على كم حب هائل وحاسة سادسة تري بها ما نخفيه نحن الأبناء عنها انها ام بالنهاية والعين الثالثة للأمهات دائما مفتوحة على مصرعيها، كانت تعلم بأن عقلي يضم خطة ما وانني لم استسلم بتلك السهولة لما اُجبرت عليه، لكنها لم تنطق بل ظلت متأهبة لمساعدتي إذا أحاط بي الخطر باي لحظة.

اخذت تلك الأقراص التي اعطتني إياها صديقتي التي تعمل - ممرضة - لتفتت تلك البذرة الصغيرة التي ستكون بوابتي للعبور الى نار الجحيم لتصبح سيلا من الدماء ومن ثم اتخلص نهائيا من بقايا نتنة ما زالت عالقة بي بعد الطلاق من ذاك الرجل الذي أكره ان يخونني لساني ذات يوم ويذكر اسمه ولو بالخطأ.

في تلك الاثناء لم يخطر ببالي ابدا ولو لمرة ان ما بداخلي يكون طفلي وقطعة من روحي ولابد لي ان احتفظ به مهما كلفني الامر لم يكن تفكيري متوجها لتلك النقطة ابدا، كنت ناقمة غاضبة لم اتخيل انه نعمة كبيرة من الله بل تخيلته نقمة وابتلاء عظيم لكني لم اقوى على تحمله وعزمت على التخلص منه.

فما كان يخطر ببالي الا ضربه واهانته لي وهو مخمور حتى انهض من تحت يديه مهشمة العظام وكل مرة تتكون نقطة سوداء تتسع لتصبح كالبِركة المتسخة المليئة بالأشياء القذرة التي يصعب او يستحيل تنظيفها بسهولة ولكن ما قسم ظهر البعير سوى قشة - كما يقولون – ما حدث عندما جلب أصدقائه الى المنزل ليتبادلو المسكرات فيما بينهم وكأنها رقائق البطاطس مثلا!!

غاب عقلهم جميعا ومنهم من ارتمي ليحتضن الأرض بنوم عميق ومنهم من أفرط كثيرا في التناول حتى سقط مغشيا عليه لكن المفجع في الامر حينما تهجم عليّ أحدهم لأركض منه بسرعة وخفة لم اعلم كيف ولا من اين اتيت بها، استطعت ان اغلق الباب الخاص بغرفتي من الداخل، انهال بالضرب على الباب كالمجنون حتى كاد ان ينكسر خشب الباب، اضطررت الى القفز من شرفتي الى شرفة جارتي الملاصقة لي، طرقت على شرفتها كالملسوعة والهلع يقسم قلبي الى نصفين حتى فتحت لي وحالها لا يقل رهبة عن حالي، اعطتني شراب الليمون لكي تهدئ من روعي لكني لم اكف عن البكاء حتى اتصل زوجها بـ والداي اللذان اتيا ركضا ما ان سمعا على الهاتف ما حدث معي بتلك الليلة.

قدم المجهول اسمه بالنسبة لي لا أستطيع ان اذكر اسمه حتى، يرتجف شيئا ما بداخلي إذا فكرت بفعل ذلك، قدم الى ابي الرجاء والمحاولات والاعتذارات الكبيرة والقليلة حتى انه عرض عليه ان يعطيني نصف ثروته الطائلة واقنعه تماما ان ذلك خطا لن يتكرر ما دام على وجه الحياة ابدا، لكن والدي كلما اقترب مني ليقنعني بالعودة او الغفران كنت اصرخ بلا توقف حتى يغشى عليّ، فقرر ان يتركني لكي اهدا والطلاق بالنسبة له كان حلا مؤقتا لكي يضمن صحتي وحالتي النفسية ثم لن يتريث بعد ذلك في فتح الموضوع مرارا وتكرارا حتى امَلَ واقبل بالعودة لكني عاهدت نفسي ان اتحمل كافة الضغوطات حتى يَمَلَ هو!

بالطبع سيغير حملي كافة الموازين وستكون كفة طليقي وابي هي الرابحة وسينضم له اخوتي الصِبْيَان الذين أكون انا وحيدتهم الانثى، لن افسح لهم المجال ولن اجعل لهم فرصة سانحة للضغط عليّ.

عندما تناولت تلك الأقراص كادت ان تودي بحياتي، اصابتني بنزيف غزير والم في بطني لا يتوقف فظللت اصرخ رغما عني فسارعوا بأخذي الى المشفى رغم رفضي القاطع للذهاب لكنه قضي الامر الذي فيه تستفتيان، ألقوا بي داخل السيارة لتركض عجلاتها بسرعة كبيرة لأكون حاضرة تحت يديّ الطبيب الذي اعطاني شيئا ليوقف به النزيف ويلحق بحياتي وحياة جنيني!! تبا له من طبيب، تجاهل صرخاتي الرافضة لبقاء تلك النطفة في احشائي وقام بإنقاذها بمنتهى الحرفية والسرعة، لم يكتفي بذلك بل أخبرهم أيضا بإنجازه العظيم حيث استطاع انقاذ كلانا دون أي خسائر عدا عن بعض الوهن بصحتي الذي سيحاربه ببعض الإقراض والحقن الوريدية.

مهما توسلت او وقفت في وجه التيار رافضة بقوة وعزم لن تفيدني محاولاتي بشيء، حكمت المحكمة التابعة لابي حضوريا كان او غيابيا بسجني مؤبدا مع الشغل والنفاذ مع ذلك الذي يكرهه قلبي وتبغضه روحي حق البغض.

جاء ومعه "المأذون" ليعقد عليّ من جديد ويضع بيدي اغلال لا تصدأ ولا تنكسر الا بموتي، تورمت عيناي من البكاء المستمر، انقبض قلبي عدة مرات حتى انني شعرت انه سيتوقف لما يحمله من هموم ثقيلة لكن لا مفر من معايشتها، ليس باليد أي حيلة سوى الصبر.

طوال الطريق لتنفيذ الحكم عليّ بسجنه مرة أخرى وانا شاردة اتمني ان تنشق الأرض وتبلعني او يحدث للسيارة ارتطام قوي بإحدى السيارات لتذهب روحي الى بارئها قبل ان يُغلَق علينا باب واحد.

ما زال عقلي يختلق - السيناريوهات – المختلفة التي اود ان تتحقق احداها واتملص من ذلك الثور الجالس بجواري في السيارة منتشي بفرحة النصر والفوز بي رغم انفي فلكم يعشق التحدي وكسر الانوف.

ارتعدت اوصالي عندما لمست قدمي مقدمة الشقة التي شهدت على اذلالي وتعنيفي كل يوم وليلة، قبل ان يدلف اليها معي صاح بصوت جهوري:

- لا يوجد طعام بالمنزل سأذهب لأجلب بعض الأشياء المعلبة لتسد جوعنا اليوم وبعد ذلك تعود يداكِ لفنونها القديمة في صنع الطعام ليلوك فمي بألذ وأشهى الاطباق ثانية.

أيها البغيض فلكم كانت كلماتك ثقيلة عليّ اذني من قبل وكم ستكون أثقل فيما بعد!

تأخر كثيرا حتى كاد الوقت في غيابه ان يصل الى الخمس ساعات، لم اقلق عليه بالطبع لكنه الفضول فلم يستحق الذهاب الى " السوبر الماركت " القريب من المنزل لكل تلك الساعات لكني حقا لم أكن اهتم، حادثني والدي عبر الهاتف وسال عنه فأخبرته بما حدث فقال بصوت حزين:

- اذن فما وصل اليّ من اخبار صحيح او يحمل شيئا من الصحة.

= ما الذي حدث يا ابي؟

- أخبرني أحدهم ان زوجك قد تشاجر مع أحد أصدقائه وهو الان في المشفى لكني لم اصدقه فكيف يتشاجر او يخرج في اليوم الذي اخذك به من عندنا فاتصلت لأتأكد عن حقيقة الامر.. هيا تجهزي سأمر انا واخوتك لاصطحابك لكي نطمئن على حاله بالمشفى.

ذهبت بصحبتهم الى حيث أرشدنا من أرسل الخبر لابي لكن كان الخبر ينقصه شيء مهم للغاية وهو انه كان مجرد جثة ممددة بأحد ادراج بالمشرحة، كان قد لقي حتفه قبل ان يصل الى المشفى من الأساس والان دورنا للتعرف على جثته.

بأعين جامدة وقلب ثابت روحت أتطلع اليه وهو ازرق اللون مغمض العينين لا حول له ولا قوة، مر امامي كل ذكرياته السيئة وتطاوله الدائم عليّ بقوته البدنية التي لا مقابل لها من قوة تجابهها من طرفي، حاولت ان ابحث عن أي شيء جيد قد يخفف من وطأة جمودي تلك او يشفع له لكي اطلب له الرحمة من الله لكني لم أجد أي شيء ولو بسيط.

توقف اعلان الوراثة لتقسيم التركة حتى موعد ولادتي ليتبين ان ما برحمي كان صبي ليأخذ كل الإرث له ولي دون مشاركة من أحد يقرب والده لنا فيما عوضني الله به وكانت تلك هي حكمة الله بحملي منه وعودتي بعد ذلك حتى ولو لم يُغلق علينا باب مرة ثانية كما تمنيت وانا بجانبه في السيارة.

" تمت بحمد الله "


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات سمر رجب ( كاتبة روائية )

تدوينات ذات صلة