علينا أن نختار معاركنا بعناية، فرجل يعرض حبه بإستمرار على إمرأة ترفضه ويبقى مخلصاً لها هو رجلٌ يحب المعارك الخاسرة ولا يحترف القتال من أجل إمرأة تستحق...


"شيفرة بلال"، هو اسم لرواية كتبها الدكتور أحمد خيري العمري، قرأتها وعشت مع أبطالها حياتهم وما مروا به، وكما عرفتُ دائماً، فإن الأشياء ليست كما تبدو... عشتُ في هذه الرواية معانٍ كثيرة عرفتها من قبل واسترجعتها بشكل أعمق، ومعانٍ تعلمتها من جديد وفكرت فيها من جديد... ما معنى أن تهرب وتختفي وتتلاشى، وهل يجبرنا محيطنا على أن نتلاشى؟ هل تجبرنا معاملة بعض الأشخاص السيئة أن نرى أنفسنا الأسوأ؟ هل نصدق ما يقولون عنا ونعيشه ويتحول إلى حقيقتنا؟ بل وأن نؤمن بأننا نستحق ذلك؟ هل نرى أنفسنا بعيون الآخرين ولا نعود نرانا ونُدفن تحت تراب الوهم؟ لطالما آمنتُ بأننا مرايا لبعضنا، فمن رأى فينا شيئاً فإنه في نفسه، وما نراه في غيرنا فهو فينا، فمن رأى فينا سوءاً ففيه منه، ومن رأى فينا خيراً ففيه منه، وعلى كل شخص فينا أن يواجه نفسه ويسألها هل هو يحمل صخرة سيزيف أم يحمل صخرة بلال...

صخرة سيزيف وما تمثله من عبثية الأشياء التي نقوم بها ونفعلها، وما مدى جدواها، هل نقوم بتوجيه الإساءة لغيرنا نتيجة لضعف فينا، فنشعر بالقوة حين نُهين أحداً ونُكمل النقص الذي نشعره؟ هل حين نصل لدرجة الكمال نكتشف أن كمالنا بُنيَ على نقصنا الذي ما زال موجوداً فما فعلناه دون جدوى فنحمل صخرة سيزيف مرة أخرى ونستمر في التصرفات العبثية غير المسؤولة حتى نشعر بالكمال لنهبط للنقص مجدداً؟ عملنا لا طائل له وجهدنا عبثي... أم هي صخرة بلال! صخرة بلال، هي الصخرة التي وضعها أمية بن خلف على صدر بلال لتعذيبه وانتزاع كلمة تبجيل للآلهة وإخراجه عن دين محمد، إنها الصخرة التي تُوضع على صدورنا فتجعلنا ندرك بأننا أقوى رغم ضعفنا، أن قدرتنا على التحمل في سبيل ما نؤمن به يجعل كل ما يفعله الأخرون أو يقولونه لنا هو مجرد عبث تماماً كصخرة سيزيف... صخرة بلال ترمز للقوة، للصبر، للثبات، لتعلقنا بالأمل، لنختار الطريق، طريق الضعف، أو طريق القوة، ورمزاً للإيمان...

لقد آمن بلال بأن "أحدَ أحد" ستنقذه، آمن بكلمة، وأنقذته، فبماذا نؤمن نحن؟ ولماذا نؤمن؟ هل إيماننا مشروط أم غير مشروط؟ هل نؤمن لسبب وبزواله يتلاشى إيماننا؟ إنه ليس الإيمان بالله فقط، إنه الإيمان بالمطلق، بفكرة، بقضية، بموقف، بشخص، بأمة، بوطن، وبما أن الله هو المطلق فإن الإيمان المطلق هو الإيمان بالله، لأن الله يتجلى في كل شيء، بأقواله، وأفعاله، وصفاته، هو الإيمان بالله وبذاته، بدون شروط، وبدون أسباب، يصبح للعبودية معنى آخر، نعبده لأننا نؤمن به، ونؤمن به لأننا نعبده، يصبح للعبودية لذة، إنها مطلقة، نخرج من عباءة عبوديتنا للأشياء، للأشخاص، نتحرر من القيود التي وضعناها حول أنفسنا بدون أن نشعر سواءاً بعاداتنا، بطقوسنا، بتفاصيلنا الصغيرة أو حتى تفاصيلنا الكبيرة، أصبح للعبودية معنى أعمق وأكبر، نؤمن ويصبح الإلحاد ليس خياراً...

ولماذا نُلحد؟ وبماذا نُلحد؟ هل نُلحد لأننا كبشر بحاجة لشيء مادي ملموس يتقبله عقلنا المحدود؟ هناك أشياء كثيرة في هذا الكون لا يستطيع عقلنا الإحاطة بها أو استيعابها ولا نجد لها تفسيراً علمياً فنرفضها ونردها إلى أنها شيء من صنع الطبيعة، ناتج عن أي تفاعل أو أي تطور، لا يقبل عقلنا بالخوارق أو الما ورائيات، ألهذا نُلحد؟ وبماذا نحن ملحدون؟ حسب أفلاطون، هناك ثلاثة أشكال للإلحاد (1) إنكار الإلوهية والربوبية في الأصل (2) إثبات الإلوهية وإنكار العناية الربانية بالخلق، بما معناه إنكار الرسل والأنبياء (3) إلحاد القرابين، أن الألهة يُستجلب رضاؤها ويُدفع سخطها بتقديم القرابين... فبأي شيء نحن ملحدون؟ هل هو إنكار كامل لوجود الذات الإلهية، وبأن وجودنا عبث وبموتنا سننتهي لحالة من العدم!!! أم هو إنكار العناية الإلهية؟ حيث أن العالم غارق في الظلم والحروب والأمراض! حتى وإن كان كذلك، فأراه لذات السبب، وهو عجز العقل البشري على استيعاب الظلم والحروب والأمراض الموجودة، لإنه إذا وُجد إله، لماذا لا يمنع كل هذا؟ إنه ببساطة يرينا ما نحن بحاجة لرؤيته، إما نحن بحاجة للنضج، أو أننا بحاجة لتعلم درس جديد، أو لرسالة لم نرها بغير ذلك، المصاعب والآلام تقودنا دوماً نحو الإله... قرأت شيئاً ما بالهندية في مكان ما عن أن الله يحبنا كثيراً، ولأنه يحبنا كثيراً يريدنا دوماً بقربه نتكلم معه ونصلي له، ونحن عادة في أوقات رخائنا وسعادتنا بعيدين عنه ولا نتحدث إليه ولا نصلي له، لذلك هو يمنحنا بعض الصعاب والآلام لنعود إليه ونقترب منه أكثر... أم هو بحثنا الدائم عن وسيط أو شفيع أو نذر نقدمه كقربان للإله لنحصل على رضائه!!! هل نرشو القدر عندما نقول "إن شاء الله"؟!! والأهم، هل نُلحد لنُؤمن؟!!


الإيمان هو ما يجعلنا نستمر، هو ما يجعلنا نتخلص من ذواتنا القديمة وما تعودنا عليه وما تعلقنا به لأننا نخشى التغيير، وما يترتب على هذا التغيير، فالانفتاح على الثقافات الأخرى وتقبّل الآخر وفهم ما هو موروث وقراءة المعتقدات بشكل مختلف والتصرف بروحانية أعلى، هنا نترك أثراً، ويكون لنا دوراً نلعبه في الحياة، سواءاً في حياتنا أو في حياة المحيطين بنا، فنحن هنا الآن ومن ثم ماضين، فماذا سنترك وراءنا من أثر...

وحينما تترابط الأحداث في حياتنا بطريقة غريبة وتتسلسل بنحو نظن بأنها صدفة، فإنها تكون مرتبة بيد القدر لنصل إلى ما يجب أن نصل إليه، ربما نقرأ كتاباً، أو نشاهد فيلماً، أو نسمع أغنية، أو نقابل أناساً، يجعلونا نعيد اكتشاف أنفسنا ومصادقتها فهي الرفيق الوحيد لنا في رحلتنا من المهد إلى اللحد، وهو شيء يتطلب مجهوداً كبيراً، نتعلم ونقوم بأشياء جديدة لم نظن بأن لنا القدرة على تعلمها أو القيام بها... نُعبّر لأول مرة عما نشعر به، ونعترف به لأنفسنا قبل اعترافنا به للغير، ما هي علاقتنا مع أنفسنا ومع الأشخاص الذين وضعتهم الأقدار في طريقنا، هناك غاية من ذلك، هناك سبب لذلك، ربما لا نكتشفه، ربما لا نعرفه، وربما نعرفه ونرفضه، نحن لا نختار من ترسل إلينا الأقدار ولكننا نختار أن نحافظ عليهم أم لا، ولذلك علينا أن نختار معاركنا بعناية، فمثل رجلٍ يعرض حبه بإستمرار على إمرأة ترفضه ويبقى مخلصاً لها هو رجلٌ يحب المعارك الخاسرة ولا يحترف القتال من أجل إمرأة تستحق...

كما وتعرض الرواية الصراع بين النوايا، هل نوايانا خالصة لله أم لغاية أخرى، هذا الصراع واجهه بلال الحبشي حين واجه أمية بن خلف في أرض المعركة، ووقع أسير صراع في نفسه، هل سيقتل أمية لأنه كافر وعدو الله، أم سيقتل أمية لأنه سيده السابق الذي عذبه، بلال أخذ يردد (لا نجوتُ إن نجا)، أراد بها أن يكشف سر نواياه، ويجردها من هوى نفسه، إنه الصراع الدائم في باطننا، لكل منا أمية في باطنه، فلماذا يريد أن يقتله، إنه الوهم، إنه الخوف من شيء ما، إنه شيء يؤذينا، وقتله معناه هدم الوهم وهدم الخوف والتخلص مما يؤذينا، معناه التحرر من نير عبودية حبسنا أنفسنا فيها، حتى إطلاق سراح أنفسنا بحاجة لنية مخلصة لله...

على ظهر الرواية كُتب (هذه الرواية هي قصة ما حدث معهم بسبب بلال، وما يمكن أن يحدث معك)، شيفرة بلال، دعوة لمعرفة النفس، لمعرفة جذورنا الحقيقية، للغوص في أعماق ذواتنا، لفك شيفرة أرواحنا، للسفر في عاداتنا القديمة، للتخلص مما كنا نؤمن به سابقاً لنؤمن بشيء جديد، لنتجنب الموت الداخلي وعدم الحياة، لنعرف فيما إذا كانت مشاعرنا حقيقية وأنها موجودة فعلاً، إنها دعوة لإعادة اكتشاف الله ومعرفته، فلكل شيء شيفرة، وشيفرة بلال تركت أثراً، فابحث أنت عن شيفرتك الخاصة واترك أثراً...


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

@Heba Mohammad
شكراً جزيلاً، روحك أجمل...

إقرأ المزيد من تدوينات تجربتي... ريم القدح

تدوينات ذات صلة