مقالة أدبية - متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ؟
في اليوم الأول ، عندما أهدتني أيتونة الصغيرة ذات الخمس سنوات تلك العلبة الظريفة ، علبة أيس كريم فارغة ، قامت بقص ثقب صغير في سطحها مع أمها – جوجو صديقتي وجارتي- ، ووضعت في داخلها حلزونا صغيرا من حديقة بيتها ، حيث اكتشفنا تلك الحلزونات وأمسكناها للمرة الأولى سوية في مرة من المرات كنت أجلس في حديقة بيتهم ، فأهدتني واحدا منها هدية عيد ميلادي . وبمساعدة صديقتي ، والتي تكون أمها ، صنعت لي باقة ورد صغيرة من أزهار قطفتها من الشارع ومن حديقة البيت ، المهم ، أن تلك الهدية كانت شعورا جميلا صادقا كيدها الصغيرة وكلماتها المبعثرة ، وأصبح ذلك الحلزون رفيق وحدتي الجديد منذ ذلك اليوم . في الأيام الأولى ، كانت كل خلفيتي تتلخص في أكله الأوراق الخضراء ، كنت أضع له الورق الأخضر باستمرار ، ورق شجر الليمون ، شجر التوت ، النعناع ، وكنت أراقب حركته وأتعرف إليه بالتدريج ، أقدم له الرعاية وأراقبه وهو يكبر ، أتعرف على حركته وتكوينه ، وبدا ذلك جزءا لا يتجزأ من يومي لمدة شهرين متواصلين .
.
خلال الشهرين ، أحضرت له من حديقة بيت أيتونة رفيقا يؤنسه في وحدته ، حلزونا آخرا ، ووضعتهما سوية في العلبة ، وعرفت أثناء ذلك الكثير عن حركته ، واكتشفت أن له فم صغير يأكل به الورق الأخضر ، فم لطيف ، يصدر صوتا محببا أثناء قضمه ، لا تصدق أن ذلك الكائن الصغير ، يمكنه أن يمضع الطعام ، كانت مراقبته تحرك عاطفتي ، لاكتشاف ظرافته التي تظهر لي يوما بعد يوم . وفي مرة من المرات وضعت له الماء على أطراف ثقب الهواء في غطاء اللعبة ، فإذا هو يزحف حتى الثقب ، يلصق نفسه بإحكام في الداخل ، ويخرج رأسه من الثقب للخارج بعينيه الطويلتين متأملا العالم خارج العلبة الصغيرة ، ويبدأ بشرب الماء بينما أراقبه في ذهول وإعجاب ، فإذا هو أثناء شربه يبقبق الماء فيتطاير إلى وجهي رذاذه الطائش ، وأندهش فأكرر تلك العملية كل يوم .
.
وفي مرة من المرات ، بقي ليوم كامل لا يخرج من صدفته ، وكان ذلك تأنيب ضمير مبرح ، خفت من موته جراء إهمال ارتكتبه ، وفكرت بعد فوات الأوان أنني أهملت في معرفة ماذا يحب أن يأكل ، ماذا لا يحب ، أمسكت الصدفة وضربتها بسفرة الطعام ربما يخرج منها حيا جراء رجه ، لكنه لم يخرج ، وانكسرت حافة قوقعته ، كسرا بسيطا لكنه ترك طرفها حادا ، وللمرة الأولى بحثت على شبكة الإنترنت ، كيف أعرف إن كان حلزوني ميتا ، وعرفت أنه يجب أن أضع الماء في صدفته ، فإذا أخرج الحلزون رأسه من الصدفة – نظرا لأنه يحتاج إلى الهواء للتنفس ولا يعيش تحت الماء – فإنه بذلك حي ، وإلا فهو ميت . فلما أغرقت الصدفة بالماء ، لاح الأمل في الأفق على حين غرة ، حين أخرج رأسه الصغيرة من الصدفة ، فرقص الفرح في قلبي ، وعاهدت نفسي أن أهتم به أكثر بعد الآن .
.
دائما ما تفيقنا لحظات الظن بأننا فقدنا شيئا نحبه لإهمال منا ، ونغدو بعدها أكثر حرصا حين نجد فرصة ثانية ، تعلمت بعدها أكثر عما يأكله وما لا يجب أن يأكل ، لم تكن تلك الورقات الخضراء التي أضعها هي الطعام الوحيد ، وإذا بالحلزون حيوان "قليط" ، ينتقي ما يأكل بعناية ، يحب الجزر والخيار ، البروكلي ، الموز ، الذرة والتفاح والكوسة ، وتميته أطعمة أخرى كالبطاطس والحمضيات ، فيالمتعتي في المرة الأولى التي وضعت له فيها طعاما غير ورق أشجار البرتقال والتوت ، بدأت بالجزر ، بشرته لأجزاء ضئيلة وراقبت خلاصه الأول من ضيق ما كنت أقدمه ! إذ التهم الجزر التهاما سريعا كماء بعد طول عطش ، فخالط سعادتي حزن على أنني لم أكن أعتني به كما يجب ، ربما لو كنت تركته حرا في الطبيعة ، لكان أسعد .
.
ومع الوقت بدأت الصدفة التي كسرتها كصدفة سحرية ، فإذا بأطرافها الحادة تلتئم ! وأنا أراقب ذلك المخلوق العجيب ينمو ، ويكبر ، ويلتئم ، ويتمتع بالموز والجزر والخيار ، أبدل له الطعام كل يوم عما قبله ، لكن بداخلي كان دائما هناك صوت يصرخ ، ربما لو كان حرا طليقا ، لكانت الخيارات أمامه أكثر مما أقدمه وأكثر ، ربما كان حينها أسعد ! فتأخذني تلك الفكرة على تقديم المزيد من الرفاهيات له .. بدأت بعد ذلك بمنحه فسحة ينطلق فيها أينما شاء خارج العلبة ، أفتح الغطاء ، وأتركه حرا طليقا ، وأتعجب .. أتعجب أن له طرقا أكثرَ يتمتع بها بالحياة التي يعيشها كنت أجهلها ، فمثلا كانت طريقة خروجه من العلبة تدهشني في كل مرة ، فهو كلما أراد أن ينزل من على حافتها المرتفة إلى جدرانها لينزل عنها ، يكاد ينقلب بقوقعته الثقيلة ، لكنه يستخدم استراتيجية موحدة كلما أراد النزول ، فهو يلصق طرفه الخلفي في داخل العلبة ، ويمد رأسه من الأمام طويلا في الهواء ، ثم يهوي بها على الجدار الخارجي للعلبة ، فبدلا من أن ينقلب بصدفته ، يمسكه طرفه الخلفي الذي كان قد ثبته داخل العلبة قبل أن يستخدم روح سبايد مان الكامنة بداخله .
.
وبذلك كلما رأيت منه إمكانيات أكثر ، كلما راودتني الظنون نفسها ، ماذا لو توفرت له حياة أوسع ! لابد أنه سيظهر حينها إمكانيات أعجب وأعجب ! ماذا لو كان حرا ، أما كان حينها أسعد ؟ واجترتني الفكرة إلى منحه إمكانيات أكثر ، فبدلت علبته الصغير ، بعلبة أكبر ، تعطيه إمكانيات أكثر في الحركة واللعب ، ونمت ليلتها قريرة العين ، إلى أن راودني ذلك الحلم المرعب ، حلم من بنات أفكاري التي تجاهلتها وتماديت في التحايل عليها بكل طريقة ممكنة ، فكرة حرية الحلزون التي لم تتوقف عن مرادوتي أبدا ، فإذا بي ألهو أمام أول منزل سكنته في صغري ، حيث تتقاذف النخيل أمام جبل عنيد تحفه الصخور من كل جانب ، وجن الليل ، وحلت الوحشة وأنا وحدي ، وبحثت عن حلزوني الصغير ، لآخذه معي من الأرض الواسعة إلى علبته داخل المنزل ، فإذا بي أجده يزحف قرب نخلة من النخلات ، له جسم طويل شديد الطول ، كثعبان فوقه قوقعة ، وشعرت بالاشمئزار وأنا آخذه وأَضعه في العلبة وأغلق عليه ، واستيقظت ووالضيق يجثم فوق صدري إثر ذلك الحلم الموحش المشؤوم .
.
وبينما أنظف العلبة في لصباح وأعيد فرشها بالنبات ، سألت نفسي .. إلى متى ؟ وألح علي منظر الحلزون في الحلم وهو كبير لكنه كبر في علبة ! لسبب ما ، كان ذلك مؤذيا ، كان ذلك المنظر لجسمه العملاق في علبة صغيرة يصيبني برعدة واشمئزار ، ويتطفل عليّ أثناء أكلي ونومي وساعات صفوي .. ومن دون تفكير مني ، وجدت نفسي في حديقة البيت ، أطلق الحلزونين فوق الورق الأخضر .
وقفتُ بعد ذلك في حالة حزن تختلط برائحة فرح ، فلن يكبر الحلزون في علبة ، سيظهر كل إمكانياته ويملك كل سعادته دون تدخل متسلط مني ، على الرغم من أن فراقه بعد شهور من المعرفة والاعتياد قد أثرت بي فأحزنني أنني لن أتمتع برفقته بعد اليوم وأشاهده وهو يلتهم طعامه الصغير في نهم وينثر الماء في مرح .
.
هل يشعر الآباء بتلك الغصة لما يكبر أبناءهم ويهمون بمغادرة العش ؟ ليس سهلا أن تُفتَحَ الأقفاص للمرة الأولى لتخرج العصافير إلى الحدائق الخضراء الشاسعة .. لكن أليس من الأنانيةِ أن تطغى رغباتنا في التمتع بمداعبة العصافير والاستئناس بها ؛ على رؤيتهم ينطلقون سعداء في العالم الرحيب ؟ ألا يستحق خوض مغامرة الحياة أن نضحي بلحظة الحزن التي تصاحب فتح أبواب الأقفاص ؟ بدا لي يومها أن منح من نحب حرياتهم هو شكل نبيل من الحب ، لا نبلغه إلا بالترقي في درجات سلم الفضيلة لبلوغ تلك الدرجة من الإيثار . لا شك وأن التخلي لا يكون سهلا ، لكنه السبيل إلى تهذيب النفوس من أدرانها ، وهي غاية نبيلة عالية .. لا يسعى وراءها إلا أصحابُ النفوسِ الكِبار ، وأن جُروحَ التخلي عن الأنانية البشرية هي جروحٌ غائرة .. لكنها الطريق الوحيدة ، ليدخل من خلالها النور .
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات