مقالة ذاتية تأهلت للقائمة القصيرة لفرع المقال في جائزة أوسكار المبدعين العرب 2023


في لجج سريان الأيام المتسارعة ، يسطع بارق من قبسٍ خاطف يومض ويخبو على استحياء من بين الساعات الجارية ،يومض كلما خبى بريق الكلمات الكبيرة الكاذبة ، والصورُ البراقة اللامعة ، وكلما ظهرت ملامحٌ لحقائقَ باهتة تروح وتجيئ خلسة من وراء الستائر المسدلة الفاخرة ، ومضُ سؤال يلح بلا انقطاعٍ ولا توقف وإن تجاهلته ، وإن نسيتُه . أيعرف الناس حقا ما نسميه بالحب ؟ أذلك الحبُّ موجودٌ في الأساسِ في تكوين البشر ؟

لابد للمعنى لكي يكونَ حُبّا ألا يشوبَه شائبةٌ من الزيف ، لابد أن يكون خالصا ولابد أنك حين تقول بأنك تحب ؛ أنك تستخلص الكلمة من الغورِ كأنما تقتطعها من قاع صدرِك ، مثلما تُستَخرَجُ اللؤلؤة من حشى الصدف الكامن في أعماق البحارِ الواسعة ، فهل يحمل أغلب الناس ذلك القلب القادر على صناعة اللآلئ الغالية ؟ ذلك هو السؤال الذي لا يفتأ يتوقف عن العبث أمام ناظري ، لأنني كلما تعثرت في بشر ، لا أجد في خصاله من الصدق ما يكفي.

و بسبب ذلك صار يبدو الحبّ لي مرارا وتكرارا كأنه مضغة رخيصة بالية ، تنتقل من بين الأفواه من فم إلى الثاني ، يعلكُ بها ويعوّل عليها ، يجعلك تتساءل في يأس كبير ، إن كان البشر يعرفون الحبّ فعلا . في رحلة الأيام المتصاعدة ، غدا الحب مثل لونٍ يبهت من فوق لوحة جماعية زائفة عظيمة هائلة ، فحينما بدا في لحظة أنه نبيل ، أشاحَت الأيامُ صبغته فبدت حقيقة بشاعته ، وإنما هو غطاءٌ كاذب لحاجة أمانٍ شعثاء ، وزوبعة كسادٍ عقليٍّ هوجاء ، إن ما وجدت من يربت على وحدتها ، ويمسد على خرقِها ، لجُنّ جنونها ، فتتشبث بمن عطف على كسادها وغطاه عن العيان ، وتقول حين ذاك ، بأنها تحب .

وعلى الضفاف الأخرى بضعة من الناس ما ملكوا من الدنيا ولا من الدين ، ولا ينقذهم من الهلاكِ المحتمِ إلا يدٌ يمسكون بها ، وحينذاك يطلقون على هذه اليد اسمَ الحبّ ، فقط لأنها وسيلة النجاة الوحيدة من رتابة الحياة . ماذا يصنعون في حيواتهم إن لم يتدثروا بعباءاتِ الحب ؟ كيف يظهرون إلى الملأ دون قلادة الحب الباهظة معلقة على صدورهم البالية ؟ تصنع من رفاتهم صوراً لامعة ، وتختبئ تحت نورها البراق أشعث الصورِ .

لكنك أيها الحب بريء من العالمين ، وأنتَ تختلف عما يدعون ، أن أحبَّك يعني أن ما يؤذيك فإنه قد أذاني ، وأن ما آلمك فهو قد آلمني مرتداً عنك مئة مرة ، وأنك أنت مثلما تكونُ .. حبيبي ، لا لأنك حبل إنقاذ قد مُدّ لي فتشبثت بهِ ولا لأن حياتي بلا وجودك تفتقد إلى المعنى أو إلى الجمال ، وإنما أملك إجابات على أسئلتيَ الكبرى تجاه الحياة ، وأملك سلامي وأملك رغبتي في الغناء والرسم وكتابة الشعر وقراءة الكتب ، فتنظر لي أكيداً من أنني أحبك أنتَ لا لرتابة في معيشتي أو في نفسي ، ولولا أنني في العمر القصير قد عرفت الحب في اللحظات الفاترة الخالية من السببِ ، ولولا أنني عرفت في الحكايات من حولي من أنحلهم طول الهوى وأحنى ظهورهم صبره الطويل ، لقلت أنكَ كذبة خالصة .

الحبّ نفيس ، ووجوده قليل ، وثمنه باهظ ، وقليل من اشتراه ، فأما ما يباع منه على الأرصفة وفي الدكاكين الصغيرة إنما هو حبُّ العامّةِ اختلط فيه الذهبُ الخالصُ بضعف البشرِ الساذجِ الفطريّ ، لكن يبقى على ما فيه من شوائبَ ، إسورةً جميلة . وأما الباهظَ منهُ ، الكامِلُ التامّ ، فهل هو ممكِنٌ ؟ هل يجتمع مع حقائق الواقِعِ ومجريات الأيام ؟ أم أنه حتّى يكونَ فلابُدّ له أن يبقى مبتورا ؟ حبٌ كاملٌ يعني أنه بلا خطأ ولا ناقصة ، ويعني أن يكون مبتورا عذريا محاذرا ، أن ندفعَ ثمَنَهُ كما دفعته ميّ ؛ حبٌ من على ضفاف الوحدة القارسة ، وموتٌ على أطيافِ حبها العذري دون أن تستطيع الإمساكَ بيديه ، ولا بيديّ جبران .


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات رتوش _ علياء نجم

تدوينات ذات صلة