كثيرٌ من النعم لا نلاحظها و لا نمتن لوجودها حتى تزول
اعتاد والدي أن يقدُم لنا الفاكهة مقطعة لمربعات متناسقة صغيرة مرتبه بطريقة بديعة يتفنن فيها بشكلٍ مختلف كل مرة،
تختلف الأصناف في الطبق حسب المتاح في المنزل، يزيلُ القشور والبذور ويقضي في ذلك وقتاً طويلاً بلا تذمر أو كلل،
لم يتوقف أبداً عن تلك المهمة المقدسة حتى اشتد به المرض في عامه الأخير،
لدرجة أنني نسيت أن للفاكهة قشور وبذور ونسيتُ شكلها الأصلي!
أتذكر ذلك كله الآن و المرارة تعتصر قلبي، وأتذكر جيداً كيف كنت ُ أرى ذلك العمل الرائع تافهاً ومضجراً،
وأتعجب في داخلي.. لماذا يصر أن نتناول الفاكهة كل يوم! ،
ولماذا ينفقُ كل هذا الوقت في ذلك العمل الرتيب الذي كان بنظري وقتها _غير مجدٍ _ بل و ممل ومضيعة للوقت!
لم ألاحظ حينها ذلك التنسيق البديع الذي كان يخترعه كل يوم ولا ذلك الجمال الذي كان يصنعه في كل طبق،
وأستطيع الآن أن اشعر بحسرته عندما كنتُ أتناول الطبق بضجر
دون شكر أو اهتمام بل وأحياناً كنتُ أرفض تناول الفاكهة كنوع من التمرد الأرعن الذي رافقني في سنوات شبابي!
توفي والدي بعد زواجي بأسبوعين ،
بعد عامٍ من المرض وملازمة الفراش والتنقل بين المستشفيات،
تاركاً طفلة لم أعد أتذكرها الآن إلا أنني في كل لحظه أكتشفُ أنها مازالت تختبئ في مكان ما
تحركني و تتحكم في كل مشاعري و أفعالي !
...
بدأ صغيري في اكتشاف الفاكهة منذ عامين تقريباً، أحبها كثيراً واهتم بأنواعها وأسمائها التفرقة بينها ،
فبدأت الفاكهة تدخل إلى بيتنا تدريجياً،
أغسلها و أقشرها وأقطعها لمكعبات صغيرة و أشكال لطيفة،
أراقب سعادته الغامرة بذلك الطبق الدافئ وابتسامته الشاكرة وقلبي سعيد..
أعوام و انا أرفض تماماً تناول الفاكهة! أتملص منها في كل وقت و كل مناسبه،
كلما تناولتها مجامله أشعر أنني أتجرعها بألم وحسرة لا أفهم سببها!
إلى أن بدأت والدتي هذا العام ونحن في زيارة لها في تقطيع الفاكهة لتميم
كما كان يفعل والدي على نفس الطاولة وفي نفس الأطباق،
ناولتني طبقاً وهي تنتظر مني أن أرفضه كعادتي ،
لكن لدهشتها طرتُ به فرحاً حتى كدت أحتضنه وأبكي..
ذلك الطبق الذي رفضتهُ مراراً لأعوام لماذا لم يخبرني شيئاً عن المستقبل،
لماذا لم يخبرني أنه يوماً ما سيصبح أمنيه !
...
تذكرت ذلك كله دفعةً واحدةً اليوم بينما أقطع لصغيري الفاكهة لمكعبات صغيرة متناسقة ،
أزيل البذور و اتحرى مواضعها جيداً وأتفنن في تنوع الأصناف و تنسيق الطبق حسب الألوان ،
أخذت أحدث نفسي كم أن ذلك العمل ممل و يستغرق وقتاً طويلاً إلا انني لا أستطيع التوقف لسبب ما لا أفهمه،
بل ولا أفهم لماذا بدأت تلك المهمة الغريبة في الأساس !
اكتشفتُ أني أصبحتُ أتذوق الفاكهة أحياناً وأنا أقطعها لصغيري،
ولا أخصص لنفسي منها نصيباً كأني أعاقب نفسي دون أن أشعر ،
بالتدريج تخطيتُ رفضي لكل الفاكهة تقريباً،
وحده البطيخ لم أستطع رؤيته أو التعامل معه !
يذكرني دفعةً واحدة بكل الطقوس الطفولية..
احتفالنا بالبطيخة الغامضة المستديرة، جلوسنا حول والدي نراقب مهارته في تقطيعها وانتقاء القطع الناضجة الحلوة،
ازالة البذور تماماً ثم توزيع الأنصبه بالتساوي، تلك الفاكهة اللطيفة تثير بداخلي غصة كبيرة،
لم أعد أتناولها نهائياً برغم عشق صغيري لها وأرفض حتى رؤيتها،
وأتنصل من كل محاولات جدة صغيري لأبيه أن تعطيني بطيخة صغيرة لأقطعها لصغيري لأنه يحبها، أ
تذرع بكثيرٍ من الحجج الواهية في كل مرة،
إلى أن فاجأتني يوماً ما بطبقٍ كبيرٍ من البطيخ المقطع منزوع البذر تقريباً،
أهدتني إياه فجأة مبتسمةً أنهُ هدية للصغير!
فقدت اعصابي تماماً وأنا أمسكُ ذلك الطبق !
وجدتني أتذوق تلك الفاكهة لأول مرة من ستة أعوام !
استمرت الهدية الحنونة بعد أن رأت سعادتي بها،
كلما قطعت بطيخاً صنعت لي طبقا منسقاً بعناية كبيرة منزوع البذر تقريباً،
كهدية لصغيري،
دون أن تعرف أبداً قدر الدفء الذي يدخله ذلك الطبق في قلبي كل مرة،
ولا كيف أسعدت فتاةً صغيرة مرتعبة تختبئ عميقاً داخل تلك الأم الصغيرة!
...
كثيراً ما يأتينا الدفء من حيث لا نحتسب،
وكثيراً ما نختبئ من أشياء تحزننا دون أن ننتبه ،
كثيرٌ من الأخطاء نرتكبها دون أن ندري،
قد نكتشفها بعد عشرة أعوام وقد لا نكتشفها أبداً،
كثيرٌ من النعم لا نلاحظها و لا نمتن لوجودها حتى تزول!
وكثيرٌ من الثوابت في حياتنا لا نحسبها من النعم، بينما لا عوض لها مهما طال الزمن..
قدروا نعمكم مهما صغرت..
وامتنوا لأهليكم و محاولاتهم البسيطة لإسعادكم..
لا تدري نفس ماذا تكسب غداً ولا ما الذي خلف عقارب الثواني يختبئ!
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات