لطالما كنت مقتنعة أن عدم قدرة منطقتنا على الابتكار هو بسبب القيود والديكتاتورية فقط

لأنه صور لنا أن سبب تفوق الغرب وخاصة الولايات المتحدة الامريكية في عدد الابتكارات وامتلاك التكنولوجيا هو عدم وجود قيود، وأن هناك حرية مطلقة لأفراد الشعب كما يصورها لنا الاعلام وخاصة في الأفلام الامريكية. ولكن كان دائما يحيرني أن الصين دولة ليست فيها حريات، بل دولة قمعية دكتاتورية لأقصى درجة، حتى أن تقرير هيومن رايتس ووتش لعام 2017م كتب فيه نصا عن وضع الحريات في الصين" بعد أكثر من 3 عقود من تعهد الحزب الشيوعي الصيني بالإصلاح والانفتاح، لا توجد أدلّة كثيرة على عزم الحزب على تغيير موقفه الاستبدادي. في ظل قيادة الرئيس شي جين بينغ، الباقي في السلطة حتى 2022 وربما أكثر، لا تزال فرص كفالة حقوق الإنسان الأساسية، مثل حرية التعبير والتجمع وتكوين الجمعيات والدين، هزيلة للغاية"، ورغم هذا الحكم الاستبدادي فإن الصين تنافس الآن الولايات المتحدة الأمريكية في مؤشر الابتكار وامتلاك المعرفة!

لذلك قررت أن ابحث في الامر، وفعلا وجدت أن القيود ليس دائما عدوا للابتكار، بل إنها في أحيانا كثيرة تجعله أكثر فاعلية -إذا كان مبتكر فعلا- وخاصة في المجتمعات التي تبدأ الخطوات الأولى لتكون مجتمعات مبتكرة، كما هو الحال في منطقتنا، فمثلا نحن نسمع كثيرا جملة " فكر خارج الصندوق"، فيتقد البعض أن التفكير خارج الصندوق يعني التحرر من القيود والضوابط في التفكير، مع ان معظم المبتكرين العظماء أمثال "تسلا" و"نيوتن" و"فراداي" وغيرهم، أدركوا وأكدوا على أن القيود تحفز بل وتوجه الابتكار (وهنا لا أتكلم عن البيروقراطية)، لان محاولة الابتكار بلا قيود تثقل كاهل من يريد أن يبتكر بالخيارات والتجارب الكثيرة، وتجعله يتجاهل الممارسات الراسخة والأكيدة لنجاح تحويل فكرته إلى ابتكار. وهذا ما يحدث الآن في حكومات كثيرة في وطننا العربي، الكل ينادي بالبرامج والممارسات المعززة للابتكار، لكن دون وجود مبادئ توجيهية لتنظيم عمل تلك الممارسات لضمان نجاحها، وتكون المحصلة عدم وجود نظام بيئي متكامل ينظم ويوجه الأفكار، وبالتالي عدم تحول أي فكره إلى ابتكار لأنها دائما بعيدة عن أرض الواقع ولا تقنع لا المستثمرين ولا أصحاب المصلحة ولا حتى الحكومة التي تنادي بالابتكار الوطني!

فكيف يمكن إذن أن تتبنى الحكومات نهجا أكثر انضباطا يضمن نجاح الابتكار كما فعلت الصين وكوريا الشمالية؟، إن النهج الذي اتبعته الصين مثلا هو تطبيق بعض القواعد البسيطة على الخطوات الرئيسية في عمليه الابتكار. قواعد بسيطة لعمل بنية كافية لمساعدة الحكومات على تجنب البيروقراطية الخانقة أو فوضى وعشوائيات الأفكار. بحيث يمكن للأفراد داخل تلك الحكومات أن يوجهوا إلى المسار الذي يجعل الابتكار قابل للتنفيذ والتحول إلى السوق وبقوة. فنعم يفكروا خارج الصندوق، لكن مع عمل فضاء خارجي يضمن ألا تفلت الفكرة الى عالم ألا شيء. وهذه القواعد البسيطة بالتأكيد لن تضمن نجاح الفكرة من أول مرة، لأن الابتكار في طبيعته يحتاج إلى التجريب والفشل عدة مرات حتى يخلق منتجات أو عمليات أو نماذج أعمال جديدة لها قيمة اقتصادية واضحة، وهنا سيكون دور القواعد الحاكمة هو إضافة الانضباط في عملية التجريب وتعزيز كفاءة الابتكار وبالتالي زيادة احتمالات نجاحه بسرعة.

وبالتأكيد الابتكار الذي أتكلم عنه هو ليس الاختراقات، لكن الابتكار الذي يبنى على ما سبق. لأن الاختراقات لها أسلوب تعامل آخر، فهي تخلق من ظروف خاصة يكون أهمها إما الحاجة أو الشغف الداخلي للمبتكر، وتكون بيئتها مختلفة حسب الحالة التي تخلق فيها. بالنسبة للعديد من الشركات الناجحة يكون الابتكار ناتج عن التطوير الدائم في المنتجات أو نماذج الاعمال لضمان امتلاك السوق، وهذا ما تفعله الصين على مستوى الدولة. فالصين تعتمد على التطوير وتقديم كل شيء بإضافة ميزة نسبية إليه كل فترة وحسب احتياجات السوق الذي سوف تنزل فيه. وهذا النوع من الابتكار يؤدي مع الوقت إلى نوع من الابتكارات الجزئية أو التحولية. إن القواعد التي تقوم بها الشركات العالمية وقد قامت بها الصين لخلق منظومة تقدم الابتكارات بشكل مستمر وناجح يمكن تلخيصها كالتالي: أولا أن تكون تلك القواعد قليلة، مما يجعلها واضحة للتذكر والتواصل والاستخدام، وتجعل من السهل على المستثمرين والممولين وصف أنواع الابتكارات التي من المرجح أن يتم اختيارها وأنواع الابتكارات التي يصعب تبنيها. وهذا بدوره يضع محددات لما يجب أن يركز عليه أصحاب الأفكار لتقبل أفكارهم. ثانيا تكون تلك القواعد البسيطة فعالة وقابلة للتطبيق وتعرف كل الأنشطة والقرارات، وذلك للتأكد من أن من سوف ينفذ تلك القواعد لدية قدرات مختلفة عن الموظفين الاعتيادين، فيجب أن يكون لدية مرونة وقدرة على التشجيع ومعرفة كاملة بمعني الابتكار وما هي دورة حياته وطبيعة التعامل مع أصحاب الأفكار الإبداعية. ثالثا لابد ان تكون تلك القواعد تناسب ثقافة واستراتيجية الدولة أو المنظمة التي تطبق فيها، أي لا يتم زرع قواعد من دول ناجحة دون عمل إحلال لها وتطبيقها على واقعنا وثقافتنا وعادتنا (كما يحدث دائما عندما نطبق القواعد الأجنبية مثل الجودة وغيرها والتي للأسف نفشل في تطبيقها لأنها ليست مناسبة لتربتنا). واخر قاعدة هي ان تكون هذه القواعد فقط للتوجيه وان تترك مجال واسع وفسيح للتحرر في الإطار والابداع الهادف.

الخلاصة أنه لابد من وجود قواعد حاكمة ولو بسيطة لزيادة احتمالية نجاح الابتكار، حتى تحقق الانضباط عن طريق توفير مستوى أولي من التوجيه، مع ترك المجال واسعا للإبداع والمبادرة والتميز.



ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات غدقا - د. غادة عامر

تدوينات ذات صلة