صحيح أن المواقف تصدمُ و تؤثر .. التأثير مستمر و المشاعر جياشة و لكن في الأخير تبقى طبيبا مُلزما بتحمل كل هذا و أكثر .
يقوم جميع الأطباء باتخاذ قرار الالتحاق بكلية الطب في عمر الثامنة عشر و يكون ذلك مباشرة مع صدور نتائج البكالوريا تزامنا مع حصولهم على معدل مشرف وسط تشجيع الأهل و مباركة عظيمة من المجتمع .
و منذ هذه اللحظة التي يقوم فيها بتبني هذا التخصص ، ينطلق في سباق لن ينتهي إلا بتقاعده أو موته .
تتعدد الأسباب و يتوحد المصير ، يبدو القرار الذي يتخذ فيه المرء فيما سيمضي فيه فناء عمره المتبقي في عمر مبكر أمرا ساذجًا و مُستندا قانونيا جاحفا يُلزم الطفل بالتسمك بحلم طفولته - هذا ان كان حلمه في بعض الحالات يختار الناجحون الطب اجبارا من والديهم أو إلزام بتتبع المهنة التي تُهيمن عائليا على باقي المهن - دون الالتفات يُمنة و لا يسرى في عالم لا علم له بخبايا أموره و لا كواليسه الحالكة .
و بهذا يكون المتوافدون على كليات الطب باعداد هائلة - 1030 طالب طب : السنة القادمة على مستوى كليتي -
أما عني : فقد تملكني في لحظة ما الهوس بانني سأكون طبيبة يوما ما ، بداخلي يبدو الأمر عظيما ، يعرفك الناس كبطل خارق مُنقذ للأرواح و هذا ما جعلني أصبو لهذا الاختيار دون تفكير .
قضيت ست سنوات في كلية الطب أعود في نهاية كل عام مُحملة بأكوام و رُزمٍ من الأوراق " الدروس النظرية " * ( = المُعرفة بين الطلبة ب مصطلح : les polycopiés )
خضت برفقتها ليالي طويلة ، معارك لا تقبل فيها رايات بيضاء و الأدهى يجب أن تبقى كل هذه المعلومات في مخي استعدادا لتطبيقها على أرض الواقع ..
ثم ماذا ؟ لم أنفك انهيها حتى أتفاجأ أنها لم تجعلني مستعدة للتحديات التي تحملها سنة الامتياز * ( المعروفة ب اسم : لانتارنا / Internat )
الساعة الثامنة و اثنان و عشرون دقيقة ، من صباح يوم الأحد :
يبدأ العمل في الصباح الباكر ، نتسارع في الوصول للمصلحة الموجودة في الطابق الثالث ، هنا يمر الوقت طويلا ، خاصة في المساء ،تتثاقل الساعات مع حجم المهام الموكلة إليك .
نبدأ بجولات الصباح في المصحة ، يسير فريق كامل من الأطباء معا باختلاف رتبهم يتناقشون في حالات المرضى ، يتفقدون مرضاهم و نسير نحن في المؤخرة كطيور حديثة الولادة تسعى للحاق بسربها.
نُحرك رؤوسنا مع إطلاق همهمة مبهمة لا تدري منها إن كانت ايجابا بالهم او غيره
و يكون شغلنا الشاغل تدوين اوامر الأطباء الأكبر منا .
تتهاطل المهام على رأسك من حيث لا تدري :
- احجز موعدا لتصوير الرنين المغناطيسي
- جهز اختبار الدم للمرضى الجدد
- اتصل بذاك و هذا
- استخرج الأوراق و نظم ملف مريضك
هكذا هو روتين أيامنا، تقضيه نعمل - دون أجر طبعا - في محاولة الالمام بكل هذه الأوامر
كل يوم يزيدك يقيناً أن معرفة أعراض المرض نظريا لا يكفيك سلاحا للتعامل معه في أرض الواقع .
يتشابه المرضى في الأعراض و يحمل كل منهم حكايا مختلفة مع احتمالية خطر يكمن في داخله قد يعرض حياته للموت في اي لحظة .
تجد نفسك في لحظة ما الطبيب المبتدئ الوحيد المتجول في أروقة الجناح ، الذي لم يتم تدريبه بما يكفي للاعتناء بسيل المرضى هذا .
رغم كل الصعوبات تبقى التجربة مبهجة و فريدة .
صحيح أن المواقف تصدمُ و تؤثر
والتأثير مستمر و المشاعر جياشة
و لكن في الأخير تبقى طبيبا مُلزما بتحمل كل هذا و أكثر .
| 30 أغسطس 2023 |
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات