أحمد مستجير: أيقونة العلم والأدب ورائد التواصل العلمي في مصر والعالم العربي

بقلم: د. طارق قابيل


في عالمٍ تتسارع فيه خطوات العلم وتتشابك فيه مفاهيمه مع متطلبات المجتمع، يبرز القليل من العلماء الذين استطاعوا عبور الفجوة بين الأكاديمية والحياة العامة، وبين المعمل والمجتمع. ولقد كان الدكتور أحمد مستجير، أحد أعظم العقول التي أنجبتها مصر في القرن العشرين، نموذجًا فريدًا لعالمٍ جمع بين دقة الباحث ورؤية الشاعر. لقد كان مستجير أكثر من مجرد عالمٍ متخصص في الهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية؛ كان جسرًا يربط العلم بالثقافة، وصوتًا ينبض بالحكمة والإبداع في زمن كان العالم العربي فيه بأمسّ الحاجة إلى نهضة فكرية تجمع بين التخصص والمعرفة العامة.


يمثل أحمد مستجير (1934–2006) نموذجًا فريدًا من العلماء والمفكرين الذين جمعوا بين العلم والأدب في إبداع يندر وجوده. ولم يقتصر تأثيره على المجال الأكاديمي، بل امتد ليشمل المجتمع الثقافي في مصر والعالم العربي، حيث نجح في تعزيز فهم الجمهور العام للعلوم من خلال الأدب والترجمة.


لقد نجح مستجير في جعل العلم لغة يتحدث بها الجميع، في معادلة صعبة تقتضي تفكيك تعقيد المفاهيم دون فقدان جوهرها. بأسلوبه الرشيق وأفكاره الثورية، لم يكن مستجير مجرد ناقلٍ للمعرفة، بل كان صانعًا للتغيير، وحاملًا لرسالة العلم نحو جمهورٍ أوسع. وبصفتي متخصصًا في الهندسة الوراثية، أجد في إرثه العلمي والثقافي درسًا خالدًا لكل من يؤمن بأن دور العالم لا ينحصر في حدود مختبره، بل يتجاوز ذلك ليصبح جزءًا من نسيج المجتمع الذي يخدمه.


إن الحديث عن أحمد مستجير ليس استعادةً لتاريخ عالم رحل، بل هو استدعاءٌ لنموذج فكري وإنساني لا يزال يشعّ أثره في أجيال من الباحثين والمفكرين الذين يحملون شعلته نحو المستقبل. وأعتقد أن اختياره شخصية معرض القاهرة الدولي للكتاب لعام 2025 هو تكريم مستحق يعكس تأثيره الكبير في الجمع بين العلوم والأدب. ويبرز هذا التكريم أهمية جهوده في نشر العلم وإلهام الأجيال الجديدة للبحث والإبداع.


رحلته العلمية


بدأ مستجير رحلته العلمية بالحصول على بكالوريوس الزراعة من جامعة القاهرة عام 1954، ثم تابع دراساته العليا في علم الوراثة الحيوانية بجامعات عالمية مرموقة مثل إدنبرة. من خلال أبحاثه، قدم إسهامات غير مسبوقة في مجال الهندسة الوراثية، خاصة في تحسين إنتاجية المحاصيل ومقاومتها للتغيرات المناخية والجفاف. كما ساهم في تحسين السلالات الحيوانية، مما دعم الأمن الغذائي في مصر.


عمل مستجير أستاذًا وباحثًا في كلية الزراعة بجامعة القاهرة، حيث درّب جيلًا من العلماء الشباب على أحدث تقنيات الهندسة الوراثية. كان يركز على أهمية نقل المعرفة العلمية إلى المجتمع خارج حدود الجامعات والمختبرات. وشارك مستجير في العديد من المؤتمرات الدولية والمحلية التي تناولت الهندسة الوراثية، حيث قدّم رؤيته حول استخدام التقنية الوراثية لتحسين الزراعة ومواجهة التحديات البيئية. ودعا في تلك المؤتمرات إلى استخدام العلم كوسيلة لتحقيق التنمية المستدامة ومواجهة التحديات العالمية مثل الأمن الغذائي وتغير المناخ. ركّزت أبحاث مستجير على استخدام الهندسة الوراثية لتحسين المحاصيل الزراعية، مثل تطوير أصناف مقاومة للجفاف والملوحة. طبّق تقنيات متقدمة مثل نقل الجينات ودمج البروتوبلاست لتحسين إنتاجية النباتات. أظهر من خلال أبحاثه كيف يمكن للتقنية الوراثية أن تلعب دورًا أساسيًا في تحقيق الاكتفاء الغذائي في الدول النامية.


وكان من أبرز إسهاماته العلمية إدخال تقنيات مثل نقل الجينات عبر الحيوانات المنوية ودمج البروتوبلاست لإنتاج نباتات متحملة للملوحة، وهي إنجازات غيرت وجه الزراعة في مصر والمنطقة.


الإنجازات العلمية للبروفيسور أحمد مستجير


الإسهامات في مجال الوراثة الحيوانية


عمل مستجير على تحسين السلالات الحيوانية في مصر من خلال برامج التهجين بين السلالات المحلية والأجنبية. وأجرى أبحاثًا على تحسين إنتاج الحليب واللحم في الأبقار المحلية مثل الأبقار البلدي عبر تهجينها مع السلالات الأوروبية، مما أدى إلى تحسين كفاءة الإنتاج الغذائي. وركز على دراسة مقاومة الحرارة في السلالات المحلية مثل الدواجن المصرية، مما ساعد في تعزيز إنتاجيتها في الظروف المناخية القاسية. كما طور تقنيات جديدة لتحليل التنوع الوراثي، مثل استخدام بيانات البروتينات والدم لتحديد العلاقات الوراثية بين السلالات.


الهندسة الوراثية والتقنيات الزراعية

كان رائدًا في استخدام تقنيات الهندسة الوراثية لتحسين مقاومة النباتات للآفات والأمراض. وطور نباتات هجينة مقاومة للملوحة والجفاف من خلال تقنية "دمج البروتوبلاست"، مما ساهم في مواجهة تحديات ندرة المياه وارتفاع ملوحة التربة في الأراضي الزراعية. واستخدم تقنيات نقل الجينات عبر الحيوانات المنوية لتطوير المحاصيل المقاومة للظروف البيئية القاسية. كما أدخل طرقًا مستدامة في الزراعة تعتمد على تقليل الاعتماد على المبيدات الكيميائية وزيادة كفاءة الإنتاج.


تحسين إنتاجية الدواجن

أجرى دراسات حول العوامل الوراثية والبيئية التي تؤثر على جودة البيض وإنتاجيته. واستخدم تقنيات حديثة مثل تحليل RAPD-PCR لدراسة التنوع الوراثي وتحديد المؤشرات الوراثية المرتبطة بمقاومة الحرارة في سلالات الدواجن المحلية. وقاد أبحاثًا حول نقل الجينات باستخدام الحيوانات المنوية كوسيلة لنقل الصفات الوراثية إلى الأجيال القادمة في الدواجن.


مواجهة التحديات الزراعية في مصر

ركز أحمد مستجير على حل مشاكل الزراعة المتعلقة بشح المياه وزيادة ملوحة التربة من خلال تطوير أصناف زراعية تتحمل هذه الظروف. وساهمت أبحاثه في تحسين الإنتاج الزراعي المحلي وزيادة الأمن الغذائي في مصر. كمادعم استراتيجيات زراعية مستدامة تجمع بين التكنولوجيا الحديثة والحفاظ على الموارد البيئية.


التعاون العلمي الدولي

أنشأ شراكات مع مؤسسات بحثية دولية لتعزيز البحث العلمي في مصر. وشارك في مؤتمرات علمية دولية ومحلية، مما ساعد على نشر المعرفة وتشجيع الابتكار بين العلماء المصريين والعرب.


المساهمات البحثية والنشر العلمي

نشر أحمد مستجير أكثر من 40 ورقة علمية في مجالات الوراثة الحيوانية والزراعية. وألف كتبًا مرجعية في علم الوراثة الحيوانية، منها "مدخل إلى علم الحيوان" و"التحسين الوراثي للحيوانات الزراعية"، والتي أصبحت مراجع أساسية للطلاب والباحثين. كما ترجم كتبًا علمية بارزة للعربية، مما ساهم في إثراء المحتوى العلمي باللغة العربية وإتاحته لجمهور أوسع.


الابتكار في تحسين الإنتاج الزراعي والحيواني

أجرى أحمد مستجير أبحاثًا حول تحسين الصفات الوراثية مثل سرعة النمو، مقاومة الأمراض، وإنتاج الحليب في الماشية. وطور تقنيات لتحليل بيانات الأداء الحيواني والجينات، مما ساعد في اتخاذ قرارات دقيقة في برامج تحسين السلالات.


دور بارز في نشر الثقافة العلمية

ترك مستجير إرثًا علميًا وأدبيًا لا يزال يلهم الأجيال الحالية. لقد جمع بين التفكير العلمي والإبداع الأدبي، مما جعله نموذجًا يُحتذى به، ويلهم مسيرته العلماء والمثقفين للسعي نحو التفوق في مختلف المجالات وإيجاد طرق لدمجها لخدمة الإنسانية. ولم يكن مستجير مجرد عالم، بل أديب وشاعر ومترجم قدم أعمالًا أدبية تعكس فهمه العميق للعلم. ترجم العديد من الأعمال العلمية الرائدة إلى اللغة العربية، مثل "الحلزون المزدوج" لجيمس واتسون و"الربيع الصامت" لريتشيل كارسون، مما ساهم في إثراء الثقافة العلمية في العالم العربي. كما أصدر مجموعات شعرية مثل "رحلة إلى عالم الجينات"، التي جمعت بين العلم والجمال الأدبي.


الترجمة العلمية

لعب أحمد مستجير دورًا رياديًا في ترجمة الأعمال العلمية العالمية إلى اللغة العربية، مما ساعد على نشر المعرفة بالتطورات الحديثة في الهندسة الوراثية. ومن أبرز ترجماته: "الحلزون المزدوج" لجيمس واتسون، الذي يشرح اكتشاف تركيب الحمض النووي(DNA)، و"الربيع الصامت" لريتشيل كارسون، الذي يناقش تأثير التكنولوجيا على البيئة. وأسهمت هذه الترجمات في تعريف الجمهور العربي بالثورة البيولوجية والجينية.

أدخل مستجير مفاهيم علمية معقدة إلى الجمهور العربي من خلال تبسيطها في كتب ومقالات. ودعم ترجمة الأعمال العلمية العالمية لتعزيز فهم الجمهور للقضايا العلمية والتكنولوجية. وتركت إسهاماته العلمية أثرًا طويل الأمد على الأمن الغذائي والاستدامة الزراعية في مصر والمنطقة العربية، وجعلت من أحمد مستجير شخصية بارزة في مجال العلوم التطبيقية والتطوير الزراعي.


رائد التواصل العلمي في الهندسة الوراثية

كان البروفيسور أحمد مستجير من أوائل العلماء العرب الذين أدركوا أهمية الهندسة الوراثية كأداة للتنمية المستدامة، وسعى جاهدًا إلى تقريب هذا العلم المتقدم من الجمهور العام. من خلال الجمع بين خبرته العلمية وموهبته الأدبية، لعب دورًا رياديًا في نشر الوعي العلمي وترسيخ مفاهيم الهندسة الوراثية في الثقافة العربية.


التبسيط العلمي للجمهور العام

ساهم مستجير في تبسيط المفاهيم المعقدة للهندسة الوراثية وجعلها في متناول غير المتخصصين. وألّف كتبًا مثل "قراءة في كتاب الجينات" و"القرصنة الوراثية"، حيث شرح بلغة سهلة ومبسطة كيفية عمل الجينات، ومخاطر التقنية الوراثية وفوائدها. وركّز في كتاباته على شرح التطبيقات العملية للهندسة الوراثية مثل تحسين المحاصيل الزراعية ومقاومة الأمراض.


التأثير الإعلامي والعلمي

كان مستجير حاضرًا في وسائل الإعلام من خلال مقالاته وبرامجه التي ناقشت مفاهيم الهندسة الوراثية بأسلوب يناسب الجمهور العام. ألّف سلسلة كتب ثقافية مثل "في بحور العلم" التي قدّم فيها العلم كوسيلة لتحسين الحياة.


في حضرة العالم والشاعر: أحمد مستجير كما عرفته

لم يكن الدكتور أحمد مستجير مجرد عالمٍ عبقري في مجال الهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية، بل كان رمزًا استثنائيًا للتكامل بين العقل والعاطفة، بين العلم والإبداع. عبر إنجازاته العلمية الفريدة، أسهم في تحقيق خطوات جادة نحو الاكتفاء الغذائي والتنمية المستدامة، وعبر قلمه الساحر وترجماته الأدبية، أضاء زوايا مظلمة في وعي الأجيال العربية تجاه القضايا العلمية والثقافية. أحمد مستجير كان أكثر من مجرد عالم أو أديب؛ كان جسرًا بل كان جسرًا يربط بين العلم والأدب، ويدعونا إرثه إلى التفكير في كيفية دمج مجالات المعرفة المختلفة لخدمة البشرية وتحقيق التنمية المستدامة.


أحمد مستجير لم يكن فقط عالمًا في الهندسة الوراثية، فمن خلال تبسيطه للعلوم وترجمته للأعمال العلمية وتأليفه للأدب العلمي، أسهم في نشر الثقافة العلمية وتعزيز فهم المجتمع لأهمية الهندسة الوراثية. واليوم، وبعد مرور سنوات على رحيله، يبقى إرثه نبراسًا لكل من يسعى لربط العلم بالمجتمع. لقد أثبت مستجير أن رسالة العالم لا تقتصر على الإنجاز الأكاديمي، بل تمتد لتصل إلى وجدان الناس، لتثير فضولهم، وتغذي عقولهم، وتشعل حماسة الأجيال الجديدة نحو العلم والمعرفة. وسيظل أحمد مستجير خالداً في ذاكرة الأمة كعالمٍ إنساني، وشاعرٍ فيلسوف، وجسرٍ متين بين التخصصية العلمية والشمولية الثقافية. وسيبقي إرثه مصدر إلهام للعاملين في مجال العلوم والتواصل العلمي.


وحين يذكر اسم الدكتور أحمد مستجير، يقف الزمن احترامًا لذكرى عالم قلّ نظيره، وشاعر حفر بموهبته طريقًا إلى القلوب والعقول. لقد كان أكثر من مجرد عالم أحياء أو شاعر مرهف الحس، بل كان تجسيدًا حيًا للنبوغ الإنساني الذي يتنقل بخفة بين دقة المعمل ورحابة الشعر. كيف يمكن لشخص واحد أن يجمع بين الحزم العلمي وإبداع الكلمة؟ ذلك السؤال الذي لم يفارقني كلما التقيت به أو تأملت في إرثه.


كانت لي الفرصة الذهبية للتعرف عليه شخصيًا، ليس كقارئ يعجب بإنتاجه، بل كرفيق حوار تأمل فيه عظمة شخصيته. أتذكر آخر لقاء جمعني به في جامعة أكتوبر للعلوم الحديثة والفنون ()، حين كنت مديرًا لبرنامج كلية التكنولوجيا الحيوية. يوم كامل قضيناه معًا، كان أشبه بصفحة مفتوحة من كتاب حكمته. تحدثنا في أبحاثه وكتبه، تناقشنا في قضايا العلم وأحلام المستقبل، ولم يبخل علينا بشيء. كان كريمًا في علمه، عميقًا في رؤيته، وحكيمًا في نصائحه، وكأنما يحمل بين يديه أمانة العلم ويحرص على تسليمها للأجيال القادمة.


في كل لحظة من حديثه، كان يستعرض أمامنا مزيجًا نادرًا من عقلية العالم الدقيقة وشاعرية القلب المتوهج. كان حديثه عن الهندسة الوراثية أشبه بمقطوعة موسيقية، يمتزج فيها التفسير العلمي بالتعبير الأدبي، وكأنما يجعل من الجينات قصيدة ومن الحمض النووي لوحة فنية.


لقد كان مستجير مدرسة فريدة في كيفية فهم العلم واستخدامه لخدمة الإنسان. إسهاماته في تطوير الزراعة وتحسين الإنتاج الحيواني لم تكن مجرد إنجازات علمية، بل كانت شهادة على رؤيته العميقة لإحداث تغيير حقيقي في مجتمعه. كل سطر كتبه، وكل تجربة أجراها، كانت تحمل بصمة حب للوطن ورغبة في التقدم.


واليوم، ونحن نحيي ذكراه، ندرك أن مستجير لم يرحل حقًا. لقد ترك إرثًا خالدًا يعيش في أفكارنا، في أبحاثنا، وفي كل خطوة نحو مستقبل أكثر علمًا ورقيًا. علينا أن نستلهِم من نهجه الشمولي، أن نكون علماء ومبدعين، نعمل بعقولنا ونحلم بقلوبنا. ففي السير على خطاه تكريم حقيقي لذكراه.


سلام على روحك أيها العالم الشاعر، أحمد مستجير، الذي أضاء لنا درب العلم والكلمة.



ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات د. طارق قابيل

تدوينات ذات صلة