ولو أنه عرض عقله وشخصيته على خبراء العلم الذي يحب،وفكَّر وقدَّر بنفسه قبل ذلك ما العلم المناسب،وما الفن المحبب لي،والمتواطئ مع شخصيتي،ومقدار فهمي،لأتقن

قد لا يستظرف البعض هذا الحديث وخصوصاً أولئك الغيورون على الثقافة، ولكن من خلال التجربة الشخصية مر علي صنوف من البشر عبثت بهم الكتب والتوجهات، وعصفت بهم الآراء والمقالات، ورأيت من غدا حاله كالنملة الحريص فهو يجمع النوادر وغير النوادر من المطبوعات فيملأ بها داره ويضيِّق بها على أهله في المكان والزمان والمال، فإذا سألته ماذا قرأت ولمن قرأت؟ قال لك: هاه هاه لا أدري، وانخرط في حديث طويل عن تاريخ مكتبته المجيد والوقت والجهد والمال الذي أنفقها سخية بها نفسه على هذه الجبال الورقية إنه "الكُتْبِي".

والآخر يقتني الكتب ويشتري منها الأرتال، ويلتهمها في شراهة ظاهرة، كمدمن لا يطيق صبراً عن تناول الجرعة، فهو يخصص لكل يوم عدد من الأوراق، ولا بد أن يأتي عليها، فإذا تزاحمت عليه الأشغال، واكتظت من حوله الملهيات، أخذ يقضم ما تبقى من هذه الأوراق بعينين ناعستين ولعاب أزرق، لا يدري ماذا قرأ! وإن درى فلا يفهم منه شيئا،ً وكان الحري به أن يخصص ساعات مركزة للقراءة لا عدد من الأوراق كيفما اتفق.

ومنهم من يلج حرم القراءة بلا منهج ولا خطة فهو يخبط خبط عشواء ناقة زهير، فهذا كتاب فلسفي، وآخر فكري ، والثالث قانوني، وليس المشكل في التنوع بل المشكل أنه لا يدري ماذا يريد ولا عن ماذا يبحث، هو يقرأ وكفى، والأدهى من هذا أنه لا يبدأ بصغار العلوم قبل كبارها.

وخذ هذا المثال الذي يتكرر مع أكثر من شخصية تاريخية لها وزنها، يقرأ هذا المتخبط لبعض من يتنقص هذه الشخصية التاريخية، فيبدأ في شتمه في كتاباته أو لقاءاته، وهو لم يقف على إنتاج هذه الشخصية، ولم يقف على حقيقة سيرته وعطاءاته، فيختلط رأسه ويبدأ يهذي، فهذا القارئ أصبح مثل نساء أروبا في القرن التاسع عشر الباحثات عن الرشاقة فهن يبتلعن دودة ( التبنيا ) لتأكل ما وضعن في أجوافهن من طعام، وهكذا فهو ممعود "معدته مريضة"، لا يستفيد من العلوم المفيدة، ولا ينتفع بحاله بل تجده دوَّاراً مواراً متقلباً شاكاً إذا نظر أو سمع أو قرأ يعرض منظوره ومسموعة ومقرؤه على ما التقمه من قواعد ونظم ومناهج مختلطة فما أعجل لفظه للنافع وابتلاعه للضار، ولا يعدو هذا أن يكون مثالاً.

وقد قيل إنما يفسد الناس نصف متكلم، ونصف فقيه، ونصف نحوي، ونصف طبيب، هذا يفسد الأديان، وهذا يفسد البلدان، وهذا يفسد اللسان، وهذا يفسد الأبدان.

أخبرني أحد الأصدقاء بأن قريباً له اختلط عقله واقترب من الجنون بسبب قراءته لبداية الخلق من كتاب البداية والنهاية لابن كثير، إذن لو قرأ اعترافات روسو، أو شكوك دوستويفسكي، أو أغلال القصيمي كيف سيكون الحال؟!

ولو أنه عرض عقله ووجدانه وشخصيته على خبراء العلم الذي يحب، وفكَّر وقدَّر بنفسه قبل ذلك ما العلم المناسب، وما الفن المحبب لي، والمتواطئ مع شخصيتي، ومقدار فهمي، ثم أقبل على مبادئ هذا العلم أو ذاك فأتقنها ومازال يتدرج فيها، ثم بعد ذلك تلقف ما شاء من العلوم المناسبة والمقاربة لما هو بصدده لكان ذلك دليل له على الإتقان.

لذلك هل من الخير لبعضهم أن نقول له:

أرجوك لا تقرأ؟

لنرى في التدوينة القادمة:



ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات مدونة تركي الشثري

تدوينات ذات صلة