تتحدث القصة عن قصة فتاة فقدت والدها في انفجار مرفأ بيروت زيارتها للطبيب النفسي الذي يساعدها بكل ما يملك لتعود كما كانت الفتاة الحالمة

لبنان (عيادة طبيب نفسي)

الثالث عشر من أغسطس (ٱب) لعام ٢٠٢٠ .

يجلس الطبيب المعالج على مكتبه تقابله فتاة فالثالثة و العشرين من عمرها "إنها لا تتكلم مذ بدأنا العلاج، يا إلهي كيف سأتصرف؟!" دلَّكَ جبينه بإرهاق تنهد و قال : ٱنسة سيلينا نحن على هذه الحال منذ ثلاثة أيام تجلسين هكذا و تأبين الكلام عما تشكين منه، اسمعي إذا كنت تريدين الخروج من هذه الصدمة وهذا الوضع فعليك الحديث فصمتك هذا لن يفيدك في شيء أتفهم مشاعرك و أعرف أن ما مررتِ به صعبٌ جدًا، لكن عليك الإفصاح عن شعورك حتى أستطيع مساعدتك ..

صمت....!!

أكمل : انظري لقد شرح أخوك كل شيء هذا صحيح و بإمكاني تشخيصك فقد أسهب في شرح حالتك، لكن كل شيء يتغير من منظور المريض لذا هيا تشجعي و أخبريني.... تستطيعين الوثوق بأني سأفعل ما بوسعي لمساعدتك هيا....

نظرت إليه نظرة باردة خالية من المشاعر و الأحاسيس لقد اعتاد عليها فهي لا تنفك ترمقه بها منذ بدٱ العلاج لطالما حاول قرائتها لعله يعرف شيئاً عما تخفيه فيفهم حالها ، لكنه لم يفلح فنظراتها فارغة تماماً خالية من أي كلام أو حتى أحاسيس...

عادت بنظرها إلى الحائط أمامها و أمالت رأسها إلى الخلف أغمضت عينيها و قالت : سأتكلم.

ابتسم و تنهد بارتياح و قال : جيد إذاً هيا تفضلي أنا أسمعك ..

قالت : عندما نزحنا من سوريا كان أبي يأمل أن نملك فرصاً أفضل و حياة جديدة ٱمنة، أَمِلَ أن نشعر بالأمان و الطمأنينة . صمتت لبرهة أخذت نفساً عميقاً و أكملت : بعد استشهاد أمي و أخي الذي لم يتجاوز السبعة أشهر تعرضنا لصدمة قوية و قاسية لم أتخيل أني سأستطيع الاكمال من دونها .

- كم كان عمرك ؟ سأل و قد رفع رأسه عن الأوراق التي كان بدون فيها .

- خمسة أعوام .

- كيف استشهدت ؟

- حدث قصف لمنطقتنا في ذلك الوقت ، كنت مع أبي خارج المنزل و أخي كان فالمدرسة لم يكن في المنزل غيرهما عندما عدنا كان المنزل قد نسف و أحالوه ركاماً عندما انتشلت جثة أمي من تحت الأنقاض كانت تحتضن أخي بقوة و كأنما كانت تحميه لربما أَمِلَّتْ أن ينجو هو على الأقل، لكن أحد منهما لم ينجُ

- فهمت، بإمكانك أن تستمري.

- ظن أبي أن مجيئنا إلى هنا سيعيد إلينا الأمل و السعادة، فقدمنا لاجئين كان الأمر صعباً فالبداية فقد قضى أبي مدة طويلة يتنقل من عمل إلى ٱخر حتى استقر أخيراً بوظيفة مناسبة عَمِلَ مع شركة لنقل بضائعها من المرفأ إلى الشركة سرعان ما تحسنت أحوالنا و اشترينا منزلاً و أكملت و أخي تعليمنا حتى أنهينا دراستنا الجامعية ظننا أننا سعداء بعد الٱن و أن الحياة قد ابتسمت لنا حتى جاء ذلك اليوم المشؤوم٠ غلبتها دموعها التي انهمرت كالمطر من عينيها ناولها المناديل و قال: تفصلي يا ٱنسة امسحي دموعك و اهدئي سنكمل حين تشعرين بتحسن..

- أجابت بين شهقاتها : أجل.. قاطع حديثهما دخول "السكرتيرة" التي أعلنت وصول السيد ساهر لاصطحاب شقيقته أشار لها الطبيب فيصل لتدخله..

صافحه و رَحبَّ به بحرارة قال ساهر: كيف حالك أيها الطبيب؟؟

- بخير و الحمد لله ، كيف حالك أنت سيد ساهر؟!

- على أحسن ما يرام. تنقل بنظره بين الذي أمامه و شقيقته محمرة العينين و قال : يبدو أن الأمور سارت بخير اليوم.

- أجل لقد قطعنا شوطاً كبيراً..

- جيد جدا، لكن يبدو أني قاطعتكما..

- ضحك و قال : لا عليك أبدأ يا سيدي كانت الٱنسة ترتاح أساساً. صمت لثانية ثم أردف : بإمكانك الذهاب يا ٱنسة نستطيع أن نكمل غداً.

أومئت له إيجاباً و خرجت برفقة شقيقها الذي ودع الطبيب بانحنائة طفيفة بالرأس.

**********

في السيارة

تجلس سيلينا في المقعد خلف شقيقها تراقب الطريق و المارة الجو مخنوق حزن و ألم يخيمان على لبنان "سويسرا الشرق" منذ قرابة الأسبوع هربت دمعة خاطفة من عينها و همست في نفسها : لقد جعلت الأمر صعباً جداً علينا أيتها الجميلة..

لاحظ شقيقها تلك الدمعة فقال : سيكون كل شيء بخير أعدك .

أومئت له دون أن تقول أي كلمة..

**********

في اليوم التالي

الطبيب : إذاً يا ٱنسة تستطيعين البدء متى شئت. قال جملته تلك و أخذ يعدل أوراقه و هو بنظر إليها بين الفنية و الأخرى ينتظر منها أن تبدأ الكلام ..

سيلينا : خرج إلى عمله مثل أي يوم حتى بعد إلحاحي عليه بأن يأخذ اجازة ، فقد كنت أشعر بالضيق طوال الليل و لم يغمض لي جفن أخبرته بمخاوفي و رجوته ألا يذهب اليوم إلى العمل لكنه أبى و قال : أنها مجرد تهيؤات و ذهب... اتصل بي عند الخامسة و النصف و أبلغني أنه سيتأخر في عمله اليوم و طلب مني ألا ننتظره على الغداء أذعنت له فلم استطع الاعتراض أو الجدال..

عند السادسة و خمس دقائق بدأت ارتجف و ضاق صدري فجأة بينما كنت أتناول الطعام مع ساهر نهضت مسرعة و شغلت التلفاز بقلق ليقابلني الخبر باللون الاحمر العريض "انفجار مرفأ بيروت" همست : أبي ، و سقط جهاز التحكم من يدي و سقطت أنا وراءه ٱخر ما سمعته كان صوت ساهر الذي أخذ يصرخ باسمي و يطلب مني الصمود و التماسك....

استيقظت في اليوم التالي في المشفى الذي كان يضج بالبكاء و الصراخ التنهيدات و الشهقات قالت الممرضة التي كانت معي فالغرفة أني بخير و أستطيع المغادرة متى أردت و خرجت، نظرت إلى صورتي على النافذة و همست في نفسي داعية أن يكون ما حدث البارحة مجرد حلم ..

بعد نصف أو ربع ساعة تقريباً دخل ساهر الذي بدأ عليه الضيق سألني عن حالي مع ابتسامة مصطنعة أجبته باقتضاب فحاله لم تكن تعجبني ثم سألته بلهفة عن أبي لعلي أسمع منه ما يريح قلبي أشاح بوجهه و قال "لقد فقدناه" أذكر أني في تلك اللحظة بت كالمجنونة أضحك و أبكي بهسترية هدئت بعد مدة لم أعرف قدرها و طلبت من أخي رؤيته إلا أنه رفض قائلاً أن جثته قد تضررت بشدة و أني لن أحتمل رؤيتها أصررت و أصر هو فانتصر ، فلم أره سور و هو يحمل داخل كفنه لما دفناه....

كانت دموعها قد أغرقت عينيها و غمرت المنديل في يدها و أكملت بين شهقاتها : بينما كنا سعداء جاء هذا ليعكر علينا حياتنا كان ساهر سيتزوج الشهر المقبل، لكن هذا الأمر سيره لأجل غير معلوم بينما ظننا أن حياتنا ستتحسن هنا و أننا لن تشعر بالألم و الحزن أبداً تبين أننا كنا مخطئين فقدت والديَّ أبي و أمي بسبب الظلم و الاستهتار و العجز لم أعد أستطيع الاحتمال لقد تعبت كثيراً....

حل الصمت لدقائق حتى قال فيصل : و أنا أيضاً...

التفتت إليه و دموعها بالكاد جفت : ماذا تقصد؟!

- أنا كذلك فقدت أحداً أحبه في ذلك اليوم ..

- من ؟!!

- أخي ..

- كيف هذا ؟؟!

- عمل أخي مسعفاً و حين حدث الانفجار الأول انطلق مسرعاً بسيارته لإسعاف و مساعدة الجرحى و انتشال جثث الضحايا ، الجميع ظنَّ أن الأمر انتهى حينها ، لكن الانفجار الثاني قلب كل الموازين توفي حينها ..

- سمعت أن هنالك الكثير من المسعفين الذين قضوا فالانفجار الثاني..

صمتت لدقيقة ثم أردفت : و كأنما كان الأول مصيدة لاجتذاب ضحايا أكثر ..... لكن ألم تحزن ؟! ألم تشعر أنك قد سلبت روحك و جزءًا من قلبك ؟!!

- بلى لكن علينا تجاوز الأمر فهذه هي الحياة بالنهاية ، لا بد لنا من فقد من نحب فلا أحد خالد كنا تعلمين ... علاجك هو الإيمان عليك أن تؤمني بالقدر و ألا اعتراض على قضاء الله ، صحيح أن الأمر قد يكون بسبب إهمال بعض الجهات لكن العدالة ستأخذ مجراها و إن لم يكن الٱن فسيكون أمام العادل الأكبر نصير المستضعفين من لا يظلم عنده أحد و لو بمقدار ذرة عليك بالأمل و الايمان ...

**********

عن الساعة الثانية عشر ليلاً

ساجدة مؤمنة محتسبة دعت بكل ما تملك من ايمان و من كل قلبها قائلة : يا رب يا عادل يا رحيم ، صبرني يا ربي ساعدني على تجاوز محنتي ألجئ إليك يا ملك يا قدوس خذ بحق والدي من الظالمين و تغمده برحمتك و أجعل مثواه عندك في جنات نعيم .....

جلست على سريرها و نظرت إلى القمر في كبد السماء و قالت : أنت محق عليَّ بالإيمان...

**********

بعد عام

وقف اثنان أمام موقع الانفجار و أيديهما متشابكة ينظران إلى المكان الذي سبب أحبابهما يتبادلان ابتسامات كسيرة و هما لا يزالان يؤمنان و يأملان بأن العدالة ستأخذ مجراها... يومــاً مــا

#شهد_الربايعة 🌼💙

🇱🇧🇱🇧🇱🇧🇱🇧

SHAHED ALI

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات SHAHED ALI

تدوينات ذات صلة