أصبحت الشاشات اليوم مصدر للخراب الأبدي، تبدل الاطمئنان إلى فزع والمشاهدة الممتعة إلى خطر محدق بالجميع دون استثناء!

- الطفولة بين الماضي والحاضر


لطالما أتذكر لحظاتي البريئة التي توجتها قنوات "الأنيميشن" والأفلام الكارتونية المسلية لعقلي في عُمر الطفولة، ذكريات تأبى أن تتبدد من عُمري الفائت، والحق أني أرفض أن تنسحق وأحتفظ بها في ركنها العتيق بعيدًا عن قبضة الزمن. أتسلل في الصباح الباكر قبل أن تخرج أسرتي من نومها الهادئ كي أتنسم القليل مما يُعرض على تلك القنوات، وبالمثل بعد أن يطمئن أبي بدخولي في النوم العميق لأستعد ليوم جديد مليء بالواجبات المدرسية و"المرمطة"، لأنسلخ عن غطائي وأعبر حدود غرفتي وكأنني أعبر "خط بارليف"، بكل ما أملك من حرص وحذر كي لا يلحظ مخلوق أنني أقف أمام التلفاز وأغرق في بحور "الكارتون" الممتع حتى ساعات الصباح الأولى، الحق أن الوقت لم يكن له وقت! أنا واللذة البدائية وفقط.


وبطبيعة الحال، تتدرج الفنون والمؤثرات المرئية والمسموعة لتخرج لنا بأروع الأفلام التي تجذب قلوب الأطفال نحوها بسحر أبطالها الخارقون ودقة تفاصيل الصورة وإبداع ألحان وكلمات الأغاني التي تتضمنها تلك الأعمال، حتى أنها لم تقتصر على جذب الأطفال فحسب؛ بل نجحت وتفوقت في ابهار أسرهم، ليصبح عُنوان عصرنا الحالي: "للكبار والصغار"، حتى أنني كثيرًا أرى أن الأسرة هي من تصطحب أطفالها في رحلة إلى السينما كي يشاهدوا ويتسمتعوا جميعًا بعرض أكبر الشركات المنتجة لمثل هذه النوعية من الأعمال وهي شركة "ديزني"، "أم المجال" التي لم تكف عن إدهاش الجميع بما تقدمه من عروض وأعمال غاية في الجمال وتتفنن في سحق من حولها من منافسين لاستهداف الأطفال نحوهم، كل ما عليهم هو انتقاء ما يشبع جوع الطفل في مشاهدة عمل فني متكامل يُخرجه من ملل طفولته وتساؤلات عقله الذي لم يهدأ منذ لحظة ولادته حيال دُنياه، واليوم وجد الحل في لحظات كفيلة بأن تقذفه لعوالم الأحلام والأبطال والمغامرات وإن كانت مجرد خيال علمي!


وحتى الكبار، وجدوا في مثل هذه الأعمال خلاصهم من قسوة يومهم وما يواجهوه في عالمهم، يوم شاق طويل لا جديد فيه، مسؤوليات وأعباء متواصلة تسلب منهم راحة البال والقوة في استكمال يوم جديد، تيار الحياة يجرف أمنهم واستقرارهم وإنسانيتهم والمطلوب هو الاندماج والمسايرة دون التفوه بكلمة واحدة سوى القبول والتسليم لأمرها، ولكنهم وجدوا في عالم الأطفال المفتاح، طوق الانقاذ من بحور الروتين.

ولكن ماذا إن أصبح منقذهم هو عدوهم الأول؟!

ماذا إن أصبح البطل الخارق كالذي يخرج لهم من شاشة الخيال هو المقاتل والمحارب لهم؟!


- ألوان الطيف تقتحم التلفاز وتُحاصر الطفولة! فهل تنجح؟


أصبحت الشاشات اليوم مصدر للخراب الأبدي! لا منقذ منها أو مفر من قبضتها الشرسة، تبدل الاطمئنان إلى خوف وفزع! والمشاهدة الممتعة التي لم يسبقها تنوية بالتحذير فيما سيشاهده الأبناء إلى خطر محدق بالجميع دون استثناء، الكبير قبل الصغير! دون التقيد بسن أو جنسية أو ديانة، اليوم الكارثة الكبرى تتحقق على يد الغرب الذي ابرم إتفاقية مع الشيطان والهدف هم سكان الأرض! لا يهم إن كانوا في مشرقها أو مغربها، لا يهم إن وضعوا الحجاب على الرؤوس أو دقوا الصليب على الأيادي، لا يهم إن سكنوا قصور على أفخم طراز أو اتخذوا الطرقات موطنًا لهم، اليوم الكل سواء أمام حرب مُمنهجة تهدف لانهيار القيم ورفع راية الحرية في وجه من أطلقوا عليهم أصحاب الجهل! والحق أن جهلهم هو الواضح كشمس النهار!

وبعد أن خرجت "ديزني" بمنصتها الجديدة "للوطن العربي"، انكشفت اللُعبة، وضحت الصورة وخرج البشر للحياة بوعي أكبر تجاه ما يتم تقديمه وما سيتم تقديمه من أعمال تتنافى مع الأخلاق العربية، الدم الحامي والخوف على الأجيال الراهنة والقادمة من الوقوع فريسة لأنياب الحرية والديمقراطية -كما أسموها- هو شعار العصر


فكيف يمكن للحرية أن تُحصر في هذا المعنى وهي أثمن ما يملكه الإنسان؟! وكيف يمارس الإنسان حقه في الديمقراطية بعد أن وضعوها موضع الاقرار والالزام بأن كلمتهم هي الباقية؟! هل يجرؤ أحد الآن أن يرفض ما أقاموه ولم يكتفوا به داخل حدود بلادهم؛ بل اشاعوا ثقافتهم خارج الحدود لتنطلق لجذور الأرض؟! هل تجد خراب أكبر من هذا!


- البشرية .. أمام مفترق طرق!


وبعد أن اتخذت قنوات الأطفال ملجأ لي من قسوة الحياة، أصبحت أفر منها خوفًا من أن تقع عيني على مشهد يثير غضبي ليس لرؤيتي له، ولكن لإدراكي أن هناك طفل ما حول العالم العربي قد يراه ويتشرب مبدأهم في لحظة عدم وعي أو غياب للأسرة، في لحظة ضعف إنساني من الممكن أن يمر بها مثله كمثل أي طفل لا يلمس حقيقة دُنياه المقززة، أن يجد البطل المفضل له "يُقبل" صديقه في مشهد يؤكد الحرية التي يطالبون بها! ولكنه يؤكد النقيض تمامًا، يؤكد مدى تخلفنا وتراجعنا عن القيم والمبادئ التي نصت عليها كل الأديان السماوية، دون تدخل البشر فيها وتحريفها كما يحلو لهم وبفلسفتهم الرثة.


هي بكل بساطة ومع الأسى والأسف "حرب ضد البشرية" وليست مجرد حرب ضد الطفولة فحسب، وهي مأساة حقيقية؛ فإن فسدت الجذور كيف تخرج الزهور طيبة الأثر؟ كيف تفسد الأسر وتخرج الأبناء في أبهى صورة لتخرج من بعدها أجيال سوية واعية؟


اليوم نحن أمام خطر كبير يتشكل في صورة وموسيقى تصويرية وأبطال من الخيال، فلا تهرب منك الحقيقة وكن أنت حارسها الوفي، لك ولمستقبل ابنك، اليوم تتضح قيمة التربية أمام مُغريات الزمن وألوان.. فقدت بريقها الطاهر!

-

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات -

تدوينات ذات صلة