إن كانت الشهرة تستحق السباق فالإنسانية تستحق أن يضحي الإنسان بروحه من أجلها ولتذهب الكاميرات إلى الجحيم.




- قتل الإنسانية .. جريمة "في عز النهار"!


لا تُقاس الإنسانية بالكلمات؛ بل معناها أعمق من مجرد حروف تتراص بجانب بعضها البعض لتخرج بما هو أقل من قيمتها العظيمة، ووحده من حسب أنها تقتصر على القول لا الفعل هو الخاسر في معركة الوجود.

اليوم وفي قرون متقدمة من عُمر البشرية.. تأخرنا! نعم تأخرنا ولكن لم يكن التأخير في مظاهر التكنولوجيا أو الفنون بمختلف أشكالها، بل الضربة اليوم جاءت في مقتل وبحق! الضحية وقعت ذبيحة دمها دون أن ينقذها مخلوق كما وقعت إحدى الفتيات في عُمر الزهور دون أن ينتشلها المارة من أنياب القاتل، قتل علني على مرأى ومسمع من الجماهير التي وقفت مقيدة أمام هول المشهد! وإن لم يكن الأول من نوعه وأعتدنا عليه خلال السنوات الأخيرة في بلادنا العربية، ولكن ماذا إن لم تكن ضحية اليوم من لحم ودم كالمعتاد؟

اليوم الضحية الحقيقية التي تستحق أن نُقيم على روحها مأتم ونشق الثياب حزنًا على رحيلها عن دُنيانا هي الإنسانية وحدها، هي لم تصدر إنذارًا برحيلها، ولكنها اكتفت بأن تذهب مع الريح عقابًا لبني البشر على سوء الاستضافة وبخل الأخلاق.

فكيف تفنن الإنسان في قتلها؟ وما هو سلاح الجريمة الذي طعن الحياة طعنة الفناء؟ هل هو بالقوة الكافية والكفيلة بأن تقضي عليها في غمضة عين هكذا؟ هل هو "ساطور" شق صدرها واقتنص روحها في هدوء أم أنه سلاح سري مستحدث لم نعرفه من قبل ولن يخرج للنور بعد جريمته مكتملة الأرجاء؟

الحق يا سادة أن السلاح المُطلخ بدمها الطاهر نحمله؛ بل ونتخذه فردًا من أسرنا وهي دلالة على المكانة الرفيعة الذي نضعه بها دون النظر إلى عواقبه الوخيمة، تلك العواقب التي نجني ثمارها الآن بمأساة وكارثة لا إفاقة منها إلا بدمار شامل! قسوته تكمن في براءة استخدامه، فلن نجد أسرع منه في التقاط صورة تذكارية لأروع اللحظات، أو لندفع الملل خارج حدود يومنا فقط كي نعبره بسلام وبأقل الخسائر، حتى أن التواصل البشري انحسر عليه وأصبح هو عنوانه الأول والأخير، فلن تجد إنسان يحمله ويقبض عليه بحرص وكأنه ابنه الصغير إلا وهو وحيد أسير لحظاته المنعزلة عن الأسرة والأصدقاء وحتى نسمات الطبيعة! وبكل أسف سلب منا الحياة وتمكن من قتل آخر ما نملكه.. الرحمة.


- "الموبايل" .. ثقافة عصر أم لهث وراء السبق و"التريند"؟


لا أقلل من قيمة هذا الاختراع المذهل؛ بل أجد أن خدماته هادفة، فقد اختصر المسافات وعبر القارات، أوصل البشر ببعضهم وهُنا أقصد من تمكنت الغربة منهم وقذفتهم بعيدًا عن ذويهم لسنوات مظلمة مفزعة. هدفه نبيل حتى الآن، ولكن الإنسان اتخذه أداة لنيل الشهرة والربح وإن كان "على قفا الناس"! على حساب أي شيء وإن كانت أحزان غيره وقلبه المفطور على فقده. هذا الكنز الثمين الذي أوصل الإنسان إلى أعلى مراتب التطور والارتقاء، وفتح أفاقًا جديدة أمامه لعوالم التكنولوجيا المدهشة، حرره من قيود الجهل ومنحه وسام العالمية وهو لم يتخطى "عتبة بيته"، في يومنا الحاضر تحول إلى مجرد آله، وبعد أن كان الإنسان هو المسيطر عليها أصبح الحال على النقيض! ليتبدل الإنسان إلى مخلوق خاضع ذليل أمام كبسة زر!

وعلى سبيل المثال لا الحصر، تابع العالم الحادثة الأخيرة التي راحت ضحيتها الطالبة المصرية فيما عُرف إعلاميًا بجريمة طالبة جامعة المنصورة، وعنها لم تجف الجفون حتى قراءتك لهذه الكلمات حزنًا وألمًا على مصيرها القاسي، قلوبنا التحمت مع قلوب الأسرة والأحباء في محاولة للتعزية والمساندة وإن كانت محاولة عقيمة لن تشقي القلب الجريح، ولكننا في متابعتنا للحدث لم تغب عن أعيننا صورة واحدة، تساءلنا.. ما الذي يدفع هؤلاء "الموكلون بنقل الخبر" لهذا الفعل الذي أجده لا يمت للشهامة بصلة؟!


- "كفاية حرام عليكم!!".. مطالب إنسانية تفشل أمام "فلاش" الكاميرات


الكاميرات موجهه للأسرة في كل مكان.. المدافن، منزل الضحية، داخل غرفة نومها وعلى السرير الخاص بها! إن التفت رب الأسرة المقهور إلى اليمين يجد كاميرا تسبقه لتسجيل عمق نظرته وحزن عيناه، وإن وصل الأمر إلى الدخول لعقله لتسجيل أفكاره فلن يكون مستحيلًا أمام من استحل حُرمه اللحظة، من تخلى عن إنسانيته لأجل السبق الصحفي أو كسب نقطة لصالحه في العمل أمام رئيس التحرير! هل وصلنا إلى هذه الدرجة من "الوقاحة" في نقل المعلومة؟ إلى هذه الدرجة من اللامبالاة حيال من يعتصره الألم ويعبث به العذاب عبثًا لا يليق به! أكتب كلماتي وأنا أعتصر مثله على حالنا الرث، وكأننا سقطنا في وحل "التريند"! وكأن كل ما يهمنا هو أن نخرج من مسرح الجريمة بتصريحات من أهل المقتول فقط لنصعد على كتفه المكسور ونتفاخر بعملنا الشاق ومهنيتنا التي لامثيل لها، ومن ثم نُقيم الاحتفالات لتصدرنا الصحف بأكملها نتيجة كلمة خرجت من أفواه الأسرة المسكينة التي لا تعي ماذا تقول في حال ذبح ابنتها في وضح النهار!


- القصاص من أصحاب اللامبدأ .. مطلب جمهوري وإنساني في المقام الأول


إن كنا ننتظر حكم المحكمة العادل لاخماد ثورة الأسرة المشتعلة حتى قيام الساعة، فنحن أيضًا ننتظر قصاص عادل من عديمي الرحمة أصحاب التطفل على لحظات الحزن والألم، أن تعود المهنة لأخلاقياتها التي تفتقر لها لسنواتِ عديدة، أن يعود الإنسان إلى صوابه، إلى رفقه بغيره، وأن يختفي الرجاء من ألسنه الأسر "المطحونة" بحزنها ومطالبهم البسيطة بمنحهم وقتًا وخصوصية والقليل من الرأفة بمصابهم، أن يُسمح لهم بالتأوه والصراخ تحقيقًا لبشريتهم.

إن كانت الشهرة تستحق السباق، فالإنسانية تستحق أن يضحي الإنسان بروحه من أجلها.. ولتذهب الكاميرات إلى الجحيم.

-

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات -

تدوينات ذات صلة