"وأحياناً يكون التذكر نوع من الشماتة في اللحظات الصعبة في الماضي"


الكُتاب كان من أمتع اللحظات في الذكريات. فالذكريات مهما كانت قسوتها وغرابتها، إلا أنها دائما ما يكون مذاقها جميلا عندما نتذكرها لسبب بسيط أنها انتهت بما لها وما عليها. والوقت الذي كنا نقضيه في الكُتاب لم يكن صعباً، بل كان وقتاً جميلا لتجمع الأصدقاء ولكن صعوبته كانت في الإلتزام الصارم بالمواعيد والحفظ ولو عن ظهر قلب، والتسميع المستمر لما نحفظه أولا بأول. أما ماكان يجعل الكُتاب صعباً فعلاً هو طبيعة شيوخ الكتاب.


كنا ننادي الشيخ بكلمة "سيدنا" وكان له مهابة ووقار، وكنا نهابه ونحترمه مهما كانت العائلة التي ننتمي إليها، لأن فلسفة العائلات في هذا الزمن هو السماح لسيدنا في الكُتاب أو الأستاذ في الفصل للتعامل مع التلميذ بما يراه حتي ولو أدي الأمر إلي ضربه ومعاقبته. فلم يكن أمامنا مجالاً للشكوي أو الدلع فقد كان سيدنا أمامنا والأسرة خلفنا. ولذلك عادة ما يكون الشيخ صارم جدا لدرجة الغلظة والضرب بالعصا أو "الزُخمة" وعي عصا بها مطاط ليسهل عليه التمكن من الضرب وقوته. وكان معظم الشيوخ "الفقهاء" بكُتاب القرية، إلا القليل منهم، يستخدمون العصا أو الزُخمة لعقابنا أثناء التسميع. وكنت محظوظا جداً لأن شيخ مجموعتنا كان طيباً ولا يستخدم الزُخمة هذه إلا نادراً عندما يستلزم الأمر.


والكتاب كان يتكون من أربعة فصول جنباً إلي جنب بجوار المسجد الكبير في القرية الذي يطل علي فرع دمياط من النيل العظيم. كان لكل فصل من فصول الكتاب شيخ محدد ولكن كان الشيوخ يتناوبون أحياناً خاصة في غياب أحدهم، وهو الأمر الذي كان نادر الحدوث. وكان الشيخ يحصل علي مقابل مادي "شهرية" متواضعة من كل طفل لا تتجاوز القروش القليلة. وكانت الشيوخ حافظة للقرآن كاملا وبالتجويد. وكان ذلك شبه عرف لكل من يريد أن يقوم بهذه المهنة. وكان معظم الشيوخ لا يحملون مؤهلات بل كانت مؤهلاتهم هو حفظ القرآن كاملاً.


الكُتاب كان مفتوحا للأطفال من سن ٣ سنوات تقريبا وبدون حد أقصي ولكن جرت العادة أن يكون حتي عمر السادسة أو الثامنة. وكان مقصوراً علي الأولاد فقلما رأيت فتيات معنا في الكُتاب، علي عكس المدرسة الابتدائية التي كانت مشتركة للصبية والبنات. وكان عدد الأولاد في كل فصل من الكتاب يتراوح من ١٠-١٥ طفل دون الالتزام بنفس السن بذات الفصل، وأذكر أن كان معي بن الجيران الذي كان يكبرني بثلاث سنوات أو أكثر، فلم يكن الإلتحاق بالكتاب إلزامي بل اختياري. وقد ساعد تفاوت الأعمار بنفس الفصل إلي تكوين صداقات بين فئات عمرية مختلفة استمرت حتي الكبر، واتاحت للأصغر أن يلاحظ عن قرب سلوك الأكبر منه، كما كانت تجعل التنافس لا يعتمد علي العمر. وقد رأيت بالفعل زملاء كانت ملكة الحفظ لديهم عالية جداً رغم أنهم كانوا الأصغر والعكس صحيح.


وكانت طريقة التعليم في الكُتاب تعتمد علي تحفيظ القرآن عن ظهر قلب بمعني بدون تفسير من الشيخ. وكنا ننسخ ما نحفظه علي اللوح كواجب ونحن في الكتاب قبل الإنصراف. واللوح كان مصنوعا من الزنك وهو الأغلي أو الصفيح وهو الأرخص. وكنا نستخدم قلم الكوبيا (قلم مصنوع من الخشب) والدواية (زجاجة بها الحبر الأسود أو الأزرق) في الكتابة علي اللوح. وكانت الكُتاب يمثل بيئة غنية للتعليم الغير تقليدي والمستمر بلغة عصرنا هذا. وهناك من زملاء الكتاب ممن لم يُكملوا تعليهمهم ولكن كان تعليهمهم في الكُتاب سببا في رسم شخصيتهم وثقافتهم وقرائتهم بصورة لم تجعلهم يختلفون كثيرا عن من تعلموا تعليما عاليا من أصدقائهم، بل كان الكثير منهم من أنم حفظ القرآن كله. ولم يخطر علي بالنا في يوم من الأيام آنذاك أن التعليم في الكُتاب سوف ينتهي، بل سوف يستمر كما يجري أمام أعيننا نهر النيل.


كان الكتاب فرصة كبيرة لتعلم بعض مهارات التواصل والتنمية البشرية مثل طاعة الشيخ، والالتزام بالمواعيد، والنظافة والنظام والتعاون مع الآخرين ولو غصباً، وفوق كل ذلك التنافسية. كما تعلمنا فيه المعني البسيط لنظام التعليم والمدرسة والواجب المنزلي والكتابة وتحسين الخط، وفوق كل ذلك حفظ أجزاء كاملة من القرآن الكريم. فقد كان الكُتاب في القرية يمثل فترة اعداد وتهيئة للأطفال قبل المدرسة وهو ما يشبه الكي جي ١ ، ٢ حاليا ولكن بالتركيز فقط علي القراءة والكتابة وحفظ القرآن.


فترة الكُتاب كانت فرصة غير عادية لاكتشاف وتنمية الذات بصورة غير مباشرة، والتعرف علي قدرات الحفظ عند كل منا. وكان للكتاب فضل كبير علي جيلي في حفظ أجزاء كثيرة من القرآن وتعلم الكتابة الصحيحة والخط الصحيح والتدريب علي الحفظ. وبالطبع لا ينسي جيلي والأجيال المتعاقبة التي تعلمت في الكتاب فضل شيوخهم الذين علمونا بإخلاص منقطع النظير ومازالت شخصيتهم علامة مسجلة في عقولنا.


ومهما زاد تقدم التكنولوجيا وجاءت بكل ما كنا نظنه خيال علمي في الماضي وأصبح واقعاً أمام أعيننا، تأتي بساطة الماضي بكل جمالها لتحرث الحاضر وتزرع فيه بذور تنبت بالخير في القلوب الخضراء.


وكم كنت وما زلت أتمني أن يتم إنشاء متحفاً حياً للقرية المصرية القديمة بكل ما كانت عليه. متحف يعطي الجيل الذي عاصر القرية المصرية القديمة والأجيال اللاحقة الفرصة للاستمتاع بجو القرية كمان كان ولو لمدة أسبوع يستنشق فيها النفس عبق الماضي وتعود لتستكمل طريق التكنولوجيا الجديد.


مع خالص تحياتي

د. محمد لبيب سالم

https://mohamedlabibsalem.com/


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات د. محمد لبيب سالم أستاذ جامعي واديب

تدوينات ذات صلة