لقد بنى القدماء منازلهم وحرثوا أرضهم وصنعوا أدواتهم باستخدام المهارة أو التقنية بلا أدنى معرفة بماهية المواد التي بين أيديهم... فما هو الحال الآن؟!

إذا أردنا البحث حول تخصص ما أو مجال عمل معين، لا بدّ من النظر أولًا للخدمة أو المنتج الذي يقدمه وما هي الضرورة الحضارية والفائدة الإنسانيّة من وراءه حتى نحدد مقدار أهميته وطريقة تدريسه وتطويره وإدخاله لسوق العمل حتى نضمن تقديم أفضل نسخة ممكنة من الناتج النهائي، وعلى الرغم من أهمية جميع المجالات في البناء الحضاري إلا أن الهندسة كانت وما زالت تمتلك الفضل الأكبر في إيجاد أغلبية المنتجات الحضارية والسبب في الاستقرار المدني الكبير الذي نحن عليه الآن.


أيّ دارس للهندسة يبدأ بدراسة بعض العلوم النظرية كالرياضيات والفيزياء منتقلًا لأساسيات تخصصه ثم ينتقل للأعمق حتى يستطيع بناء أو إتقان صيانة منتج ما (بناية أو ألة أو نظام محوسب..الخ) ويعرِف آلية عمله ولديه تصوّر ما ولو كان ضبابيًا عن شكل هذا المنتج في المستقبل، أي يقوم بدراسة العلوم النظرية والعملية، أو ما أحب انا تسميته بدراسة المهارة والمعرفة. أكثر من كان توّاقا لمعرفة الفرق بين المعرفة والمهارة هو الفيلسوف الشهير أفلاطون الذي وضع مقارنة بينهما وحاول توضيح الفرق، كانت تتمحور فكرته بأن من يمتلك المعرفة بالإضافة للمهارة يكون صاحب نظرة أشمل، حيث يعرف جواب السؤال الذي يبدأ بلماذا أي أنه يستطيع أن يعرف سبب كون الأشياء تسير بهذه الطريقة والسبب الذي يدفع طريقةً ما لتكون هي الطريقة المثلى للقيام بشيء ما، وأن معرفة هذا السبب تأتي بعد المهارة التي توصلنا لما نريد أن نصل إليه فما فائدة كتاب من ألفي صفحة يتحدث عن كيفية بناء منزل وليس لدينا بنّاء متمرس ذو خبرة يمتلك أسهل الطرق وأقلها كلفة وعلى علم بالتحديات التي قد تواجهه، أي أنه بنّاء يمتلك "تقنية".

هل يحتاج البنّاء -على سبيل المثال- المعرفة بخواصّ الحديد والخرسانة ومنحنيات انكسارها الهندسية والعناصر الداخلة في تركيبها بالإضافة للسبب الذي يجعل لإسمنت يسخن عند مزجه بالماء أو السبب الذي يجعل الحديد أكثر مرونة من الجبص مثلا؟!

أم عليه فقط معرفة طريقة البناء بالاعتماد على ما اكتسبه من مهارة؟


كسلّمة يجب أن يعرفها كل من يحتك بمجال الهندسة أن التقنية سبقت المعرفة وكلاهما يتلو الحاجة، فما كنّا سنرى آثار الأعمدة والطرق والمدرجات الرومانية لولا حاجتهم الحضارية لها،

لقد بنى القدماء منازلهم وحرثوا أرضهم وصنعوا أدواتهم باستخدام المحاولة والخطأ في سبيل إيجاد أفضل طريقة بأفضل مواد باستخدام المهارة أو التقنية بلا أدنى معرفة بماهية المواد التي بين أيديهم. فقط بدافع الحاجة، فباستخدام عقل بسيط ظل يجرّب هذا البشري حتى أتقن، ثم أخذ نظرة شمولية مكنته من معرفة السبب والمسبب، وكلّ منتج حضاري جديد هو نتيجة لعقل مبتكر وهو عقل اكتسب المهارة والمعرفة معًا مع مخيلة فذّة، صاعدًا سلّم تاريخيًا لإيجاد المعرفة منطلقًا من التفسير الميتافيزيقي البحت المعتمد على الميثولوجيا القديمة حتى التفسير الغائي وحتى الوصول للتفسير العلمي والنظرية العلمية الحديثة منذ أكثر من ألفي وخمسمئة سنة حتى الآن.

لحسن الحظ نحن لا نعيش اليوم في أثينا القديمة ولسنا مضطرين للقتال بجانب أفلاطون ضد التفسير التفسير الميثولوجي للأشياء!



بناء على ما سبق فإن مشكلة الهندسة اليوم، أو على الأقل مشكلتها في بعض أقطار الوطن العربي هي أننا لا نقوم بتدريس الهندسة كتخصص يصنع منتجا حضاريا بل كتخصص يعطي معرفة فحسب ظانين أننا نقدم الأمرين معا والدليل هو المخرج التعليمي الهائم في الفجوة بين ما لديه من مهارة وبين ما يتطلبه السوق، للميكانيكا مثلا أساسيات يجب ان يلم بها الطالب حتى يستطيع أن يقدم منتجًا ما فور تخرجه لكنه يخرج عارفًا لآلية عمل ذاك المنتج مع أدنى حد من الاحتكاك معه فيكون الطالب مفتقرًا للتقنية أي المهارة التي يجب أن تتزامن أو تسبق المعرفة، فامتلاكه للمعرفه لن يمكنه من الوصول لصنع حتى آله بخارية بسيطة استطاع الإنسان صنعها في بدايات الثورة الصناعية!

ولو دخل طالب ما سوق العمل قبل أن يُتعب نفسه ويدرس كمًّا كبيرًا من المعرفة لاستطاع أن يخرج بمنتج يفيد العالم أكثر من عشرات الكتب المكدسة في عقله، أي أنه رغم شهادته الجامعية وحرف الميم الذي يسبق اسمه لن يكون مهندسًا على الإطلاق لأنه لن يكون ممتلكا لما ذُكر سابقا من معرفة ومهارة وعقل مبتكر،

فكّر مرتين وعُدّ للعشرة قبل وضع حرف الميم ذاك في اول سنة جامعية لك! ثم تراجع عن فكرتك




لقد بنى القدماء منازلهم وحرثوا أرضهم وصنعوا أدواتهم باستخدام المحاولة والخطأ في سبيل إيجاد أفضل طريقة بأفضل مواد باستخدام المهارة أو التقنية بلا أدنى معرفة بماهية المواد التي بين أيديهم. فقط بدافع الحاجة.. فما هو الحال الآن؟!

معاذ فتحي

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

تدوينات من تصنيف علم نفس

تدوينات ذات صلة