"وأشهدُ أنَّك إن تكِلني إلى نفسي تكِلني إلى ضيعةٍ وعورةٍ وذنبٍ وخطيئة وإنِّي لا أثق إلَّا برحمتِك" _الإمام أحمد بن حنبل
كان اليوم يوم الاثنين، الثالث من يوليو.
استيقظتُ صباحًا، أُفكّر بامتحاني القادم وماقبل الأخير في مادة وظائف الأعضاء "Physiology".
وقد بدأت تنفذ طاقتي بشكل ملحوظٍ جدا.. أُجاهدُ لأستمرّ ولأنتهي من هذه الامتحانات التي شملت أحداثا كثيرة جدا على طالب في فترة امتحاناته الجامعية، وفي فترة هو بأشد الحاجة للتركيز والهدوء..
غير أن صباحي لم يكن صباحًا عاديّا أيضا..!
فقد استيقظتُ على أخبار اقتحام مخيم جنين، وهذا المخيّم يعزُّ عليّ جدّا.. كيف لا وهو مصنع الرّجال؟!
بقي ذهني مشوّشا طوال اليوم. وفي كلّ مرة أتصفح القنوات الإخبارية لمتابعة التطورات لا أجدها إلا وتزداد سوءا..
الاقتحام لا ينتهِي! والمعركة طالت.. طالت جدا..!
وعلمتُ أنها عملية موسّعة ينفذها ألف جندي وغد ومئات المدرعات والطائرات في جنين وفي مخيمها..
وقد تستمر المعركة طويلا.. وقد استمرت معركة بأس جنين ليومين كاملين بنصر من الله وتمكين للمجاهدين ودحرٍ بهزيمة واضحة للاحتلال.. فالحمدلله.
يومين كانا هما مدتي الوحيدة لأدرس في مادة وظائف الأعضاء، مع كل هذا القلق وحالات البكاء التي أحاول السيطرة عليها في كل مرة أقرأ وأشاهد فيها خبرا ما..
أذهبُ لماما، أخبرها باضطراب أن الجيش قد أبلغ أهالي المخيم بأنه سيقصفهم وأمهلهم مدة ليخرجوا.. وفعلا خرج البعض ولكن الأغلبية بقيت في بيوتها لتتضامن مع المخيم ومع المجاهدين الذين رفضوا أن يستفرد العدو بهم وبالمخيم..
لتطمئنني بكلمات كنت قد نسيتها: "يا هبلة! ومن محصّل يستشهد في سبيل الله؟ هدول ربحوا الآخرة، والله نيالهم.."
ضحكتُ لقولها بدلا من أن أبكي.. واطمئننتُ..
وخرجتُ من كل القنوات الإخبارية لعلّي أستطيع الدراسة والتقليل من كل هذا التوتر!
لكن هذا اليوم العصيب لم يبدأ لينتهي بعد!
فقد عِلمتُ بعد اقتحام المخيم، بحالة غرق ابن عميد كليتنا ودكتورنا في مادة الأنسجة "Histology"، واستمرّت عمليات البحث ليومين كاملين إلى أن وجدوه.. أسأل الله أن يرحمه رحمة واسعة وأن يغفر له وأن يصبر أهله ويعظم لهم الثواب.. آميين
كان وقع الخبر قاسيا.. قاسيا جدا..
بل كانت صفعة حياة مؤلمة للغاية..
فبالأمس فقط كان امتحاننا في هذه المادة، وبالأمس فقط كان العميد مرتبكا، صامتا على غير العادة، وكان هاتفه لا يكفّ عن الرنّ..
دخل لجنتنا مرتين يطمئن علينا..
وكان الطلبة قبل الامتحان مشتتين، خائفين جدا، والأغلبُ يشكو من المادة ومن أسئلة العميد الدسمة.. ولم يوفّر البعض جهده بأن يدعو على العميد قبل الامتحان.. وبعده!
لم يعلم أحدنا بخبر ابن العميد إلا ليلا..
ولم أعلم أنا إلا في صباح ثاني يوم..
ازددتُ هما.. وندمتُ أشدّ الندم، وأنّبتُ نفسي أشد التأنيب..
أمِن امتحان أشكو؟ أمِن امتحان أشكو من الدكتور وأسئلته؟
ماذا لو كنت قد درست أولا بأول؟ واجتهدت؟
وفعلت كل جهدي وما أستطيع منذ البداية؟
أبسبب كسلي أرمي حججا وأعذارا على دكتور المادة وأسئلته؟
وكلّ هذا وأنا لا أملك علما بما يحدث أصلا معه ولا بما يكابده ولا ما يعانيه!
يالله.. كم نحن مغفلون وجاهلون..
وددتُ لو أصفع نفسي حينها..
لأرسب بالامتحان خيرا من أن أستهزأ بالمادة ودكتورها ثم أتفاجئ بأخبارٍ كهذه!
كانت جدّتي _حفظها الله_ وقبل أن أبدأ امتحاناتي قد قدّمت لي بعض النصائح..
وكان من بعضها: "اشكري الدكاترة على مجهوداتهم، ولا تقولي بأن أساليبهم وامتحاناتهم صعبة! فأنت لا تعرفين الذي يجري معهم.. اجتهدي ووكلي أمرك لله، ولا تسمحي لنفسك أو لأحد بأن يستهزأ بدكتور المادة"..
ونسيتُ ببساطة بل تجاهلتُ ما قالته جدتي..
وسمحتُ لغيري بأن يشتم الدكتور ويدعو عليه حتى وبعد الامتحان! وسمحت لنفسي بأن أتأفف وأشكو....
فعلا.. كان هذا أقسى ما مررتُ به في فترتي الماضية..
كان درسا قاسيا. علّمني أن أفكّر مليون مرة قبل أن أتكلم..
فأنا لا أعرف حياة غيري. وعليّ احترامها واحترامهم مهما كانوا.
لا يجبُ أن أُصعق بخبر صعبٍ وقاسٍ لأتعلم..
يكفي أن أفهم أن لكل منا حياته ومشاكله وهمومه.
وأن لا أحد منا يخلو من مشكلات تنغص عليه حياته قد لا يفصح عنها وليس مضطرا أصلا لذلك.
فعلينا دائما مراعاة أن لكل منا حياة لو كانت هي حياته لما استطاع أن يتحمّل..
لقد كان هذا نهارا قاسيا استمرّ معي لأيام..
أنا أعترفُ بأنني صُفعت وبشدّة..
وبأنني.. أجاهد نفسي لتطبيق الدرس الذي تعلّمته..
فإياك ثم إياك ثم إياك أن تحكم على غيرك أو أن تنعتهم بسوء مهما كان..
ومهما ظننتَ نفسك عاقلا وتوسّمت منها خيرًا، صدّقني.. أنت سفيه أشدّ السفاهة لولا رحمة الله بك..
والحمدلله أن الغيب لا يعلمه إلا الله...
التعليقات
آمين، وإياكم يارب..
أسعدكِ الله يا هداية 🌸