هل نتصور الحرية انطلاقًا دون قيود، أم أسرًا مع من نريد، هل مشاعرنا أغلالٌ تحول بيننا وبين حريتنا أم هي شيءٌ آخر، دعونا نتأمل ذلك مع جوادنا الأبي المُحب..

عندما تُذكَر كلمةُ الحرية ربما سيبادر ذهننا بتخيل عصفور يحلق بجناحيه في السماء ويتنقل بين السحاب، أو ربما نتخيل فرسًا ينطلق مسرعًا في البراري..سنبادر بتخيل أن الحرية تعني الانطلاق بلا قيود. لكن الحرية قد تخون فَهمنا لها وتكشف لنا مفاهيمَ جديدة عنها. في بعض الحالات قد تعني حريتك التوقف..أو الاستمرار..أو الابتعاد..أو الاقتراب..إنها تعتمد على رغبتك..ولكن هل دومًا تكمن رغبتك في الحرية، أم مرَّ عليك يوم أردت فيه الأسر؟ وإن حدث ذلك بالفعل، أفلم تكن حريتك عندها هي اختيار الأسر؟! وهل دومًا ما تتحقق رغباتك، أم يحول المحتوم بينك وبينها؟ قد تكون كل تلك الأسئلة والتخيلات جالت بذهني أو ذهنك يومًا ما.. لكنني وجدت بعض الإجابات في فيلم رسوم متحركة أسرتني أحداثه ومعانيه ونظرات أبطاله؛ التي فهمت معها أن لغة الجسد والعيون قد تكون معبرة أكثر من الحروف، ولم يزعجني أسرُه لي، بل سَعِدتُ بذلك كثيرًا..

في عام 2002 أطلقت شركة دريم ووركس أنيميشن فيلم الرسوم المتحركة (Spirit: Stallion of the Cimarron)الذي يروي قصة جواد يعيش في براري أمريكا الغربية مع قطيعه([1])، ويحاول جنود الجيش الأمريكي ثم السكان الأصليون(الهنود الحمر)أسره وترويضه ليساعدهم في معاركهم، ثم يأخذه عاملون في السكة الحديد لسحب قاطرة مع غيره من الأحصنة؛ لكنه في كل ذلك عصي متمرد يأبى الخضوع والاستسلام، يسعى للحرية والعودة مرة أخرى إلى قطيعه وأمه.

في معسكر الجيش الأمريكي يحاول كل الجنود ترويض جوادنا لكنه يروعهم ويطرحهم أرضًا، فتَصهَل الأحصنة المرَوضة فرحة سعيدة بما فعله ذلك الجواد الأصيل ولم يستطيعوا فعله. فيتركه قائد المعسكر في الشمس بلا طعام أو شراب ليخضع له بسهولة..لكن لم ينجح جوعه وعطشه ونصبه في التغلب على إبائه وعزته ورغبته في الحرية؛ ولسان حاله: أنا لست مطية لأي منكم، بل أنا جواد حر طليق أعيش في البراري وأرعى قطيعي، أنا عزيز لا أبالي ولا أخضع لأي عدو متجبر.

لم يخضع للجنود، لم يخضع للجوع والعطش لكنه استسلم لشيء آخر..في الوقت الذي كان يحاول فيه الجنود ترويض الجواد ألقوا القبض على أحد السكان الأصليين من قبيلة لاكوتا، ساعد هذا الفتى الجواد في الهروب من المعسكر وساعده الجواد بدوره في ذلك.

ربما تخيل الجواد أن هذه هي لحظة حريته وربما تخيل الفتى أنه سيمتلك هذا الجواد الذي لاقى إعجابه كثيرًا، وسيتخذه صديقًا له..لكن أصحاب الفتى أسروا الجواد وكالعادة أبى هو أن يُرَوَّض..

صُدم الجواد بعودته للأسر ثانية، لم ينَل حريته طويلًا..بل كانت دقائق معدودة.

كان أسيرًا لكنه ينظر للفتى لا بعين العدو الغاصب لحريته، بل بعين المعجب الحائر، أثارته علاقة الفتى بفرس أنثى له، يتخذها كصديقة ويداعبها وتداعبه، فهي علاقة صداقة لا علاقة عبد بسيده! في هذا الوقت بدأت أفكار جوادنا تختلط وتتداخل، وظهرت علامات الاستفهام والتعجب على وجهه..كيف تتكون علاقة صداقة بين فرس وإنسان؟ هل هذا معقول! هو يصدق ذلك لأنه يراه بعينيه ولكن لا يستطيع عقله تقبله؛ وإن لم يستطِع العقل التقبل فمن له غير القلب! فقد تسرب حب الفتى إلى قلبه..ربما كان الحب عدوى انتقلت من تلك الفرس إلى ذاك الجواد؛ فمال للفتى كثيرًا وكأنه رضي أن يبقى معه لكن على ألا يمتطيه حتى لايشعر أنه خضع لأحدهم، كيف وهو الجواد الأبي!

نعم..لم يقنع الجواد بفكرة أنه خضع بالفعل لأحدهم، لم يدرك أن استسلام المشاعر سيغير فكره كليًا عما قريب..

أما الفتى فقد أراد أن يتخذ الجواد صديقًا له، لكن الجواد يسعى إلى الحرية، والفتى يفهم ذلك الشعور جيدًا؛ فهو من اُحتلت بلاده وأصبح فيها غريبًا شريدًا، بل عدوًا غاصبًا! يسعى الفتى لحريته وحرية بلاده كما يسعى الجواد لحريته، كلاهما جريح بنفس الخنجر، وجرحهما لم يلتئم بعد، كلاهما يسعى لهدف واحد؛ فلن يقف الفتى في طريق جواده بل سيتركه حرًا طليقًا. لكن هل مازال الجواد يسعى لتلك الحرية؟ أم أنه رأى الحرية في شيء آخر..

أن يطلقوا لك العٍنان بعد طول سعي نحو الحرية فتقف مكانك مذهولًا حائرًا..أن يعطوك حريتك فتأبى إلا الاستسلام..هكذا كان حال جوادِنا حائرَ الفكر مشوشَ الذهن، فقد كان يعلم دومّا أنه يريد الحرية ويكره الخضوع والأسر..أما الآن فهو لا يرى الأمور على حقيقتها بل تداخلت المشاعر والمفاهيم فصار يريد الحرية التي تعني البقاء..ويمد الفتى يده ويشير إليه بالانطلاق بعيدًا ويحثه على ذلك، فينطلق الجواد ويسعى إلى حريته لأن هدفه أخيرًا سيتحقق، لكن قلبه مازال يريد البقاء..

وتدور أحداث الفيلم حتى يجتمع الجواد مع الفتى مرة أخرى ويواجهان جنود الجيش الأمريكي معًا وينجحان في الفرار منهم في قفزة استثنائية رائعة يقوم بها الجواد ليتخلصا من الجنود وينالا حريتهما معًا.وفي هذه المرة أيضًا كانت حرية الجواد تعني انطلاقه هو والفرس الأنثى-التي أحبها الجواد كثيرًا وأراد أن تصاحبه إلى وطنه وتنضم إلى قطيعه-بعيدًا عن الفتى؛ فهناك في البراري كان ينتظر القطيع عودة رئيسهم، وكانت أمٌ فارغة الفؤاد تنتظر ولدها، وكانت حياة جديدة تنتظر هذه الفرس ..كان لابد من الفراق، لكنه كان صعبًا، ومن قال إن الواجبَ دومًا هين؟!

ليست أغلال الأسر هي دومًا ما يسلبك حريتك في الانطلاق بعيدًا، بل قيود المشاعر التي تتدفق من القلب وتجري مجرى الدم قد تكون أقوى من أغلال الأسر..إنها تمنعك من الابتعاد عمن-أو ما-تهوى، وتجعلك ترى حريتك في البقاء وشقاءك في الابتعاد. إنها تغير فكرك تمامًا فلا ترى الاستسلام للحب خضوعًأ، ولا تراه يتعارض مع عزتك وأنفتك؛ فعندما تتساقط قطرات الحب في نهر مشاعرك تتلون المياه بلونها فلا ترى لونًا لبغضٍ أو كبرياء.

أما إن وجب الفراق، وحالت بينكما المسافات فستبقى تلك القيود هي حبل الوصال؛ ستجعلك دومًا ذاكرًا لتلك اللحظات التي قضيتها مع من تحب، بل ستجعلها حية فيك..وأنتَ حي بها.



[1]) https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%B3%D8%A8%D9%8A%D8%B1%D9%8A%D8%AA:_%D8%AD%D8%B5%D8%A7%D9%86_%D9%85%D9%86_%D8%B3%D9%8A%D9%85%D8%A7%D8%B1%D9%88%D9%86_(%D9%81%D9%8A%D9%84%D9%85)

آلاء ناصر

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

رائع وبديع يا آلاء 🌸🌸

إقرأ المزيد من تدوينات آلاء ناصر

تدوينات ذات صلة